في زمن الحرب، مرةً أخرى، طُرح السؤال الجوهري، وهو ليس سؤالاً عن الماضي فحسب، بل هو سؤال الحاضر والمستقبل. ونحن نحتاج إلى أسئلة أكثر من الحاجة إلى أجوبة جاهزة: هل كان سعد إدريس حلاوة على حق أم السادات؟ في ظل الوضع الراهن والإبادة الجماعية، وإذا كان هذا السؤال لم يعد مطروحًا لأننا وصلنا إلى الحضيض، فهناك سؤال جديد ينبغي أن يُطرح: ماذا بعد الحضيض؟ هل هي النهاية؟ وإذا كان ثمة أمل، أين هو؟
جلس "محمد أفندي" أمام شاشة التلفاز، ففاضت عيناه من الدمع وهو يتابع المجازر والإبادة الجماعية في غزة، فتذكر أنه أحد أبطال فيلم (الرصاصة لا تزال في جيبي)، فأسرع باستخراج الرصاصة التي لا يزال يحتفظ بها منذ نصف قرن. أصيب بنوبة إغماء من شدة نزيف الدم العربي على شاشات التلفاز، وأجريت له إسعافات أولية للإفاقة. نصحه الطبيب أن يضع الرصاصة في مؤخرته بدلًا من علاج البواسير كعلاج جديد لنزيف الدم العربي. وما زلنا مع قصة البطل المجنون.
سعد إدريس حلاوة هو شاب في عمر الزهور (ناهز من عمره الثلاث والثلاثين عامًا) أثناء الحدث، كان أول شهيد لقي مصرعه رفضًا للتطبيع بين مصر وإسرائيل في عام 1980. حيث شغلت قصة سعد حلاوة العالم في تلك الفترة التي وقع فيها السادات معاهدة كامب ديفيد عام 1979. مضى الرئيس السادات في تنفيذ بنود الاتفاقية، ومنها بنود مخطط التطبيع مع إسرائيل بالرغم من الرفض الشعبي الشامل لهذه الخطوة، وكذلك من كافة التيارات السياسية بمختلف توجهاتها، وخاصة اليسار المصري.
أصدر الرئيس المصري أنور السادات قرارًا بتصفيته جسديًا.
أنا شخصيًا أحب المجانين وأعتبر نفسي عضوًا في جماعتهم في حب الوطن والعشق الممنوع. باسم جميع الحرافيش والمجاذيب، أفهم أنني في هذا الزمن أكل مثل المجانين عشب البراري، وما عدت أعرف يميني من يساري. أجلس معهم وأسمع أحاديثهم وكأني في عالم آخر، في المنعطف الأخير لعالم كان يُسمى العالم العربي. أعيش لحظات الجنون مع البطل الشهيد "سعد إدريس حلاوة". أنا الآن في لحظات الجنون مع كلام مصر الممنوع مع "سعد"، مع البطل المجنون ابن قرية (أجهور الكبرى) بمحافظة القليوبية، حفيد عمدة أعمدة القطر المصري الذي ذكره في كتاب عن الثورة العرابية الكاتب والأديب عبد الرحمن الرافعي، صاحب أشهر توقيع ضد الإنجليز مع أحمد عرابي. إنه من بيت وطني حاصل على بكالوريوس الهندسة الزراعية وعمل مزارعًا في أرض الأسرة من عائلة ثرية.
بعد استشهاده في فبراير عام 1980م، وُضع له تمثال في ليبيا ليكون بجوار عمر المختار، وتم تجسيد سيرته في عمل تلفزيوني درامي سوري، وللأسف لا يعرفه الشعب المصري.
رن الهاتف: السادات، نعم يا نبوي، يقصد وزير الداخلية: اللواء محمد النبوي إسماعيل. "في فلاح يا ريس اقتحم المجلس المحلي وتم حجز الموظفين، ويحمل رشاشًا، ووضع على أسطح المبنى مكبر صوت يبث منه أغاني وطنية وخطابات ثورية لجمال عبد الناصر وأغاني عبد الحليم حافظ، ويطالب حضرتك يا ريس بالتخلي عن فكرة اعتماد أوراق أول سفير إسرائيلي لمصر "السفير إلياهو بن اليسار". في نفس توقيت احتجاز الرهائن، طلب السادات من وزير الداخلية بالتوجه إلى القرية فورا، وثار السادات شدةً وغضبًا، "تخلص منه يا نبوي".
جسدياً خوفًا من ظهور أشخاص مجانين آخرين، قال السادات لنبوي إسماعيل: "نحن في أول عملية للسلام الدافئ بتطبيع أول علاقات مع إسرائيل. تصرف يا نبوي وخلصنا من الواد الفلاح، هو بيسمع أغاني وطنية لعبد الناصر، ويجيز يموت، ابعته لعبد الناصر".
اتجه وزير الداخلية إلى القرية، وأمر بإحضار "أم سعد" ووضع خلفها مسدسًا على أن يعود عما برأسه. كان المشهد وكأنك تشاهد فيلمًا سينمائيًا. الأم من مكبرات الصوت الخاصة لرجال الأمن تطالب سعد بالتراجع وتسليم نفسه، وكأنك تشاهد فيلم (اللص والكلاب) لشادية وشكري سرحان أثناء محاصرته لتسليم نفسه. قال سعد: "عودي يا أمي وافتحي قبر والدي واعتبريني من الشهداء".
أصدر الوزير أوامره بإطلاق النار على "سعد"، فأصيب في ساقه وعينه. كتبها بدمائه التي روت تراب مصر على حائط المبنى: {لا إله إلا الله، عاشت مصر حرة.. ضد الخونة والتطبيع} ليكون أول شهيد. يُشرف بنفسه وزير الداخلية في موقع الحادث، والسادات على الهاتف يتابع التصفية الجسدية.
في نفس الوقت، كان يُذاع بيان اعتماد أوراق أول سفير إسرائيلي في القاهرة، لتطلق الصحافة والإعلام المصري بالمنشيت العريض في صدر صفحاتها: "مات مجنون احتجاز رهائن في مجلس محلي قرية أجهور". فما كان من الشاعر نزار قباني إلا أن رثى سعد إدريس حلاوة تحت عنوان الجميل المجنون: "ليتنا كنا مجانين".
**إهداء**: إلى كل مجانين العرب العقلاء في ذكرى الحرب على "غزة ولبنان"، للقرار السياسي بتصفية بطل رفض التطبيع والذل والاستكانة لمشروع التطبيع الأول في عصور الردة.
**محمد سعد عبد اللطيف**، كاتب وباحث مصري في علم الجغرافيا السياسية.