الأحلام التائهة في ذكرى حرب أكتوبر

الثلاثاء 08 أكتوبر 2024 5:23 م

واحد وخمسون عامًا على حرب أكتوبر 1973، وعلى أكبر معركة جوية بعد الحرب العالمية الثانية، فوق قريتنا، التي استمرت حوالي 55 دقيقة، وعلى ضرب حقول قريتنا وتفريغ القاذفات والقنابل وصهاريج وقود الطائرات الإسرائيلية في أراضي (حوض الطويل). كلما اقتربت من المكان والذكرى والزمان، وصرخات وعويل النساء والأطفال يوم استشهد جارنا أحمد البسيوني في الحقل نتيجة قاذفة، ذاكرتي حاضرة تبحث في الآثار عن الذاكرة المفقودة، عن الحب والألم، وهي آثار لا تُرى لكنها لا تُمحى من الذاكرة.

للأسف، أصبحنا أبناء الغيوم العابرة، وكأننا أمام فيلم "رحلة النسيان". الريح تمحو آثار حقول القطن، والأمطار تمحو آثار خطى البشر، والشمس تمحو آثار الزمن. نحن الذين ولدنا في حقول القطن في يوم مجهول، وسنوات مجهولة، من أمهات بلا شهادات وتاريخ ميلاد، ومن آباء هبطوا من الغيوم، وماتوا دون أن يعرفوا متى عاشوا. هل كانوا أحياء أم موتى على الأرض؟ انطفأوا كنيازك في الظلام، كما سننطفئ يومًا.

سكنّا في وطن لا نعرف لمن، وحارب الأهل دون أن يعرفوا لماذا، وقُتلنا دون أن نعرف السبب، وأحببنا ببراءة بلا أهداف. مشينا على جسور النهر والترع والمراوي، كما يمشي الغرباء في الشوارع. جلدنا بالفَلَكة في المدارس لأننا حاولنا أن نكون كما نريد لا كما يُراد لنا، وسكنّا في بيوت من الطوب الأخضر وغرف مجاورة مع حظائر المواشي والطيور. وخرجنا نهتف ونغني: "وطني حبيبي وطني الغالي" وهتفنا "خلي السلاح صاحي" و"أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة".

نحن الذين كنا نباع في الصباح والمساء من نظام إلى آخر كما تباع الأغنام، نحن أبناء الغروب والتراحيل والمعدومين، وأبناء العتمة والغياب والصمت. نطوف حول شارع "داير الناحية"، نغني في المساء ونحن أطفال: "طفي النور يا ولية إحنا عساكر دورية"، خوفًا وتحذيرًا من قصف الطائرات لقريتنا التي تقع داخل الحزام الحدودي للقاعدة الجوية، وقواعد للدفعات الجوية والصاروخية عام 1970. ونحن في الصف الأول الابتدائي، بعد غارة وضرب قاعدة للصواريخ في حرب الاستنزاف.

استيقظنا على دق شباك حجرتنا، جارنا "محمد الغزوازي" ينادي على أبي: "عبد الناصر مات". خرجت قريتنا تودع الزعيم "جمال عبد الناصر" عن بكرة أبيها، ولم تمض سنوات حتى كنا نمزق صور الزعيم ناصر بعد كل انقلاب في الوطن العربي. في الصباح نعرف أن انقلابًا حدث، وقتل رئيس وجاء آخر، ومناهج جديدة، ونشيد وطني جديد، وصور في الشوارع وعلى حيطان المنازل، وقوانين جديدة. كيف يتوازن ونحن أطفال على قيم ومبادئ وتقاليد ومناهج متغيرة كل مرة؟

تربينا على فيلم "الرصاصة ما زالت في جيبي"، ولكن في عصر المسخ نصحوا محمد أفندي أن يضع الرصاصة في مؤخرته كعلاج جديد للبواسير. قبل الإفطار، كنا نتجمع أمام مسجد الخفاجية في قريتنا كل يوم من شهر رمضان من كل عام، بعد صلاة العصر، حتى رفع آذان المغرب. علمنا بعد صلاة عصر يوم 6 أكتوبر من المرحوم الأستاذ رياض فهيم عن تجمع الأهالي حول الخبر، ونحن أطفال ننتظر صعود الشيخ "محمد عرفة" على سطح المسجد لرفع الآذان للإعلان عن موعد الإفطار في رمضان.

وقفنا نسمع من الأستاذ رياض: "سمعت من نشرة الأخبار أن جيشنا العربي دخل في حرب وصار في أرض أخرى، ونحن أصبحنا جنودًا ونحن أطفال بدعوة الاحتياط قبل نزع سراويل ملابس المدارس". لم نكن نعرف لماذا، ثم علمنا أن جيشنا عبر البر الشرقي للقناة ثم سُحق في الحرب، وثلث جنودنا لم يعودوا. ومحاصر الجيش الثالث في منطقة "الدفرسوار". ولم نعرف لماذا انتصرنا ولماذا هزمنا، ولا لماذا لم يعد جنودنا ولا أين ذهبوا.

وطُلب منا الذهاب للاحتفال بالهزيمة بثياب النصر. لم نعرف لماذا حوصرنا في حرب أكتوبر، وهل كانت حرب تحرير أو حرب تحريك؟ ولماذا نتساقط في الشوارع من الأمراض بلا دم؟

حُرمنا من الأسئلة ومن الأجوبة، ومن الصمت، ومن الكلام، ومن الحلم، ومن النوايا "السيئة"، وحتى من الأحلام "المعادية". وتحولت أجسادنا إلى حقل للأمراض المتوطنة، وحتى من الأحلام. نتجول في شوارع قريتنا كهيكل صامت رغم ضجيج الفوضى العارمة في الشوارع. ثم قالوا لنا: "الأعداء قادمون من خلف الحدود، وعلينا الاستعداد لحرب لا نعرف عنها شيئًا، وأهداف لا نفهمها، وأن ندافع عن وطن كنا أطفال فيه بلا كرامة".

نحن يتامى التاريخ والأوطان والسياسة والأرض والثروة والمستقبل. نحن مثل ركاب قطار مات سائقه، ولا ننتظر سوى الارتطام الأخير. متى يأتي الارتطام الأخير كي تنتهي هذه الحكاية المملة؟ كنا محرومين من السؤال ومحرومين من الجواب، لأننا قبل زمن الآلات الحديثة، بُرمجنا على الصمت وعلى النسيان، نسيان كل شيء حتى من نكون ولماذا نكون، لأننا أشياء، لأن هناك من يفكر ويخطط ويحلم ويتوهم بالإنابة عنا.

فخرج الرئيس السادات على شاشات التلفزة ليعلن للعالم أن حرب أكتوبر آخر الحروب. نحن الهامش الفائض عن الحاجة، والرقم في بلاغات القتلى العسكرية، وفي خطابات الأحزاب، وفي احتفالات القادة: "نحن حزب المستضعفين في الأرض".

لم نسقط في معركة حرية، ولم نُقتل ونحن في الطريق إلى تاريخ مختلف، ولا ولادة حكاية حياة جديدة تبزغ غدًا. اجتياح بيروت عام 1982، وضرب مفاعل العراق، وضرب مقرات منظمة التحرير الفلسطينية في مذبحة شط الحمامات في تونس، وكان الغد أسوأ. بل قُتلنا تحت الأحذية في السراديب وخلف الأسوار العالية، دون أن يحمل أحدنا سر ثورة في ميادين ديار العرب في خريف ثوراتها.

نحن أبناء الغيوم، نجلد كل يوم تحت عصي التاريخ والخطباء والقادة والدول الشقيقة والصديقة، والبعيدة والقريبة، والغنية والفقيرة، والأحلام المتفسخة، والشركات الحقيقية والوهمية، والبرامج والأوهام، والعصابات والمرض. وتمص شرايينا بكامل الصحو والعلنية، وأطفالنا يبحثون في ركام المعارك عن دفتر وقلم، وفي المزابل عن مستقبل لن نشارك في صنعه، وحياة لا علاقة لنا بها، وأرض لم يعد يربطنا بها سوى الحذاء.

ماذا حدث في خلال نصف قرن من تغييرات منذ حرب أكتوبر؟ نعم، هناك حدث انقلاب في المجتمع، مجتمع بلا أخلاق ولا قيم. فالأخلاق قبل الحضارة كما تعلمنا. كنا نذهب إلى حفل العرس بكل صفاء، ونذهب في موكب الجنازات بكل صدق، نتألم مع من في حالة مخاض وولادة متعثرة، ونمشي في جنازات الغرباء باكين حزن الغرباء. نحن الوجع المخفي بالكبرياء والدموع الحبيسة والخوف المزمن.

من نحن أبناء الغيوم؟ في ذكرى حرب أكتوبر، ماذا يحدث الآن في {غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان}؟ أين العراق الممزق، أين اليمن السعيد، أين ليبيا، وأين فلسطين ولبنان والسودان؟ حرام والف حرام. تعيش أمة بعد نصف قرن من حرب أكتوبر بلا هوية، تدافع عنها أمة الفرس. فمتى يعلنون المزاد عن بيع كل ديار العرب، مقابل حذاء طفل تحت الأنقاض في غزة؟

محمد سعد عبد اللطيف،

 كاتب مصري وباحث

التعليقات