بعد طرح مبادرة القيادي حلمي الجزار، هل يُعد هذا اعترافًا رسميًا بالفرص الضائعة لجماعة الإخوان المسلمين في أول تجربة لها في الوصول إلى سدة الحكم، واعترافًا بفشلها؟
متى يدرك الذين يرددون كل يوم مطالبين بتغيير النظام أن هذا التغيير، ما لم يكن ثورة أو بداية جديدة مختلفة، وما لم تكن هناك قصة حياة جديدة وتاريخ على وشك الولادة، سيكون إعادة تدوير واستنساخًا بطبعة جديدة، يبدأ وينتهي بهم كما هو حادث منذ أكثر من عقد، وإلى سنوات قادمة؟
أثناء الحراك الشعبي والثوري في عالمنا العربي، عشنا الحلم الكبير، الكل ردد أجمل الألحان "عالي صوتك أنت مصري"، ولكن للأسف الصوت كان له سقف استغله البعض، فتحطمت الأحلام مع مصر المسروقة. اختلط الحابل بالنابل في مفاهيم ومصطلحات كثيرة، وتم استغلال ذلك الحدث الاستثنائي بطرح أيديولوجيات مختلفة. فكثير من العامة، وللأسف، من الفاعلين في الحراك يرددون مصطلحات سياسية بدون "وعي فكري" لها في اللحظات التي كانت البلاد تعيشها من انفلات أمني.
على سبيل المثال، تم طرح نظم من دول العالم؛ العلمانية، الديمقراطية، الليبرالية..؟ فكان صديقي المرشح لتولي منصب قيادي يسألني بطريقته العفوية: "ما هي هذه العبارات؟" وأنا بالنسبة للكثيرين رجل مثقف وصاحب كاريزما ومن الشخصيات العامة، رغم أنني لا أعرف معنى كلمة ديمقراطية، وما هي الليبرالية والعلمانية؟ رحم الله صديقي، فقد كشف عن سوء عورات الكثيرين في فترة حرجة من تاريخ شعبنا.
من الفوضى العارمة، حاول صعاليك من الرعاع الصعود في الساحة على حساب مفهوم الحرية والمشاركة، وظهرت طبقات حاولت استغلال الأحداث من فوضى والتعدي على الملكيات العامة والشخصية، على أنها حرية. ترك الفاعلون في الميادين القضايا المصيرية وفتحوا قضايا ثانوية.
لقد فتح صديقي قضية مهمة: هل المواطن العادي، وهو الطبقة العريضة من الشعب، كل ما يشغله هو حياة كريمة، كوب ماء نظيف، تعليم جيد، نظام صحي، إلغاء المحسوبية، الشفافية، والعدالة الاجتماعية؟ لا تعنيه الكلمات والمصطلحات المركبة. إن استغلال الدين في الأحداث السياسية، وطرح فكرة الدينية والعلمانية، جعلنا جميعًا نخرج من شعار "حرية، كرامة إنسانية، عدالة اجتماعية!" ليُطرح بديلًا عنها: العلمانية والدينية، لندخل في مفترق طرق أدى إلى السقوط في الهاوية.
هل العلمانية تنفي إيمان الشخص، من دون مفاهيم الحرية؟ وهل الليبرالية والديمقراطية والعلمانية تعبر عن الإيجابية؟ كان التيار السياسي للتيارات الدينية المختلفة هو الصوت العالي، والرافض لكل أشكال الأيديولوجيات الأخرى باعتبارها علمانية في مفهومهم الضيق لمصطلح علماني (ملحد).
فتركنا كل شيء ودخلنا في جدل وسجال عقيم حول قضايا فرعية بعيدة كل البعد عن الحدث الهام، وعن الفوضى التي اجتاحت البلاد باسم الحرية. فظهرت طبقة جديدة من البلطجية التي تتحكم في المشهد في الشارع. ورغم أننا جميعًا ضد التطرف والاحتجاج الذي تسوقه هذه الحركات المتطرفة الراديكالية والأصولية، إلا أن هذا لا يعني إلا عدم فهم بالواقع والحدث الجلل الذي تعيشه البلاد من سقوط نظام في ذلك الوقت.
هنا أتذكر الكاتبة الألمانية "حنة أرندت" التي قالت: "إن العالم الثالث ليس حقيقة بل أيديولوجيا". فهي تلخص صورتنا السرية وقيعاننا المخفية. وهناك أمثلة حدثت في العالم العربي والإسلامي؛ فخير مثال "الجزائر"، حيث يقول المنتقدون إن العلمانية في الجزائر رفضت الإسلام، وهذا شيء خاطئ، فالجنرالات هم من رفضوا نتائج الانتخابات والاعتراف بفوز "جبهة الإنقاذ الإسلامي"، وليس للعلمانية ذنب في ذلك، ولكن كان ذلك بمساعدة فرنسا، بلد الحرية. والأمر حدث في بلدان كثيرة إسلامية وعربية، الخوف من الحرية.
والآن تجد من يبكي على "الدكتاتورية" ويترحم على دكتاتور سابق، رغم أنه لا يعرف ولا يفهم معنى الحرية. وهذا ما حدث في بلدان الربيع العربي من محاولات وتخويف من الليبرالية على أنها من أنواع "الكفر بالله". فالليبرالية تعني احترام رأي الآخر مهما كان الاختلاف الفكري أو العقائدي. وعلمانية الشخص لا تنفي إيمانه، مثل الرئيس التركي "طيب رجب أردوغان" والرئيس السابق "المنصف المرزوقي" في تونس. وإسلام الشخص لا ينفي عنه ديكتاتوريته.
فمعظم حكام العرب يصنفون تحت مسمى النظم السلطوية والديكتاتورية. فالحرية مكفولة لكل مواطن، ولكن ليست حرية مطلقة. فالبعض من التيارات المختلفة يطالب بحرية الانتخابات والترشح وتداول السلطة، وهذا حق من حقوق المواطنة. ولكن بعض هذه التيارات من الإسلاميين تصطدم مع دساتير بلدانهم وتوجهاتهم. وعلى سبيل المثال، يمكن طرح سؤال قبل الإجابة: لماذا نجحت الحركة الإسلامية في تركيا وفشلت في معظم البلدان العربية رغم نظام علماني بحت؟
أولًا، ظهرت الحركة الإسلامية في مصر عام 1928م، وأُسست على إحياء التراث الإسلامي في ظل احتلال أجنبي للبلاد ونظام ملكي من أسرة علوية ليست مصرية. كذلك، قامت حركة أخرى بنفس المسمى في تركيا عام 1971م على يد "نجم الدين أربكان" لإحياء التراث الإسلامي من نظام علماني أسسه "كمال أتاتورك" بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى.
فالحركة الأم في مصر عاشت صراعات سياسية مع الملكية حتى مصرع مؤسسها الأستاذ "حسن البنا". واستمر الخلاف والنزاع بعد الملكية مع النظام الجمهوري حتى قيام ثورة 25 يناير 2011م. تاريخ طويل من الصراع حتى وصول الجماعة إلى سدة الحكم لمدة عام، ثم السقوط نتيجة عوامل وأسباب كثيرة.
كانت الأحداث التي وقعت في تركيا من محاولة انقلاب على نظام الرئيس طيب أردوغان إجابة شافية. فالعلمانيون في تركيا هم من ساندوا وأفشلوا حركة الانقلاب على الرئيس أردوغان بزعامة حزب الشعب، رغم اختلافهم السياسي والفكري، لأنهم يؤمنون بالديمقراطية. بخلاف ما حدث في مصر من تيارات مدنية ونظام الدولة العميقة. حدث صدام عميق وخلاف من أول يوم تولي فيه الإسلاميون الحكم، لعدم الانسجام العام مع التيارات المدنية، لذلك كان البديل تدخل الجيش ودخول البلاد في حقبة أخرى.
ولكن ما زال الكثير من بعض التيارات السياسية أصحاب الفكر يعتقدون أن الثورة مستمرة، ولكن الولادة متعثرة. فالثورة الأم في فرنسا حكمت بعد 70 عامًا من قيامها. علينا أن ننتظر لحين عودة الحس الوطني والإنساني لكل الفاعلين، وأن مصر فوق الجميع.
في النهاية، إن الديمقراطية أو الحرية التي يخشاها بعضنا هي في الصالح العام مهما كان معارضوها. فالثورة سوف تظل مستمرة على كل الظلم والأوضاع المتردية وعلى كل الوجوه التي سئمنا منها والتي لم تتغير، والتي عادت إلى المشهد السياسي. ولكن حينما تنتصر الثورة، علينا أن نتعلم الدرس من الفرص الضائعة: **"العيش معًا كإخوة، أو الموت معًا كالأغبياء".**
**محمد سعد عبد اللطيف**
كاتب مصري وباحث في علم الجغرافيا السياسية.