لا يهم الجودة، المهم إطعام الملايين من الناس
فرضت تحديات داخلية وخارجية متشعبة على الحكومة المصرية توسيع صلاحيات الجيش في ملف الأمن الغذائي والتدخل رسميا لضبط سوق القمح، في ظل مخاوف متصاعدة من انفجار الأوضاع الإقليمية، وما قد يسببه ذلك من أزمة في شح بعض السلع، في بلد يستورد أغلب احتياجاته الأساسية.
القاهرة - عقد رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي اجتماعا لمتابعة الموقف الخاص بتدبير القمح، دون مشاركة الهيئة العامة للسلع التموينية، المفترض أنها المشتري الحكومي الرئيسي للحبوب، مقابل حضور بهاء الغنام المدير التنفيذي لجهاز مستقبل مصر للتنمية المستدامة التابع للجيش.
وظهر الجهاز في سوق مشتريات القمح في مصر مؤخرا، وتأسس في 2022 بموجب مرسوم رئاسي ويعمل تحت إشراف القوات الجوية، وله جذور في مشاريع ضخمة منذ 2017 بدلتا النيل لاستصلاح الأراضي وتهيئتها للزراعة بسلع إستراتيجية مثل القمح، قبل أن يتوسع في توريد بعض السلع الأساسية.
ويتسق موقف الحكومة لتعزيز الاعتماد على الجيش في تحقيق الأمن الغذائي، مع تأكيدات متواصلة من الرئيس عبدالفتاح السيسي على أهمية التركيز على الملف لتأمين طعام الملايين من المواطنين ضمن توجه يُحصن الدولة من تداعيات الأزمات الإقليمية المتلاحقة وتأثيرها على حركة استيراد السلع.
وذكر بيان لمجلس الوزراء الاثنين أن رئيس الجهاز أكد خلال الاجتماع الخاص بالقمح على الاهتمام بتنوع مصادر توريد الأقماح بجانب التوسع في الرقعة الزراعية لزيادة الإنتاج المحلي، في إشارة مباشرة إلى تنحية هيئة السلع جانبا، والاعتماد على الجهاز في مشتريات الغذاء.
ويعتمد الجهاز على صفقات الشراء المباشر بعكس الطريقة التي كانت تتعامل بها هيئة السلع التموينية بنظام الممارسات والعطاءات، وهو ما رأته الحكومة يعطل الشراء وإبرام الصفقات، بينما تتطلب الظروف الإقليمية التعامل بوتيرة أسرع لتأمين الغذاء.
وترى دوائر سياسية في القاهرة أن استحضار جهة تابعة للجيش في ملف الأمن الغذائي يؤكد حجم المخاوف من اتساع رقعة الاضطرابات في المنطقة.
ويصعب فصل دخول الجيش كطرف رئيسي في توريد واستيراد السلع الضرورية مثل الحبوب، عن مخالفات مالية وإدارية تم اكتشافها بوزارة التموين مؤخرا، من خلال الأجهزة الرقابية، وقادت إلى أزمة في شح بعض السلع نتيجة وجود فساد، ولا يزال أطرافها يُحاكمون.
ويوجد جهاز رقابي صارم داخل الجيش يمنع التلاعب، وهي سمة عززت الاعتماد عليه وقت الأزمات السياسية والاقتصادية لتصويب الأوضاع وتجنب انفلاتها.
وتعمل الحكومة على توفير مخزون كبير من القمح، مع تزايد خطر انفجار صراعات واسعة قد تقيّد حركة سلاسل الإمداد، خاصة أنها تستورد ما يزيد عن 54 في المئة من حاجتها للقمح، بما يعادل قرابة 11 مليون طن، بينما ينتج مزارعو مصر نحو 9 ملايين طن من مساحة 3.5 مليون فدان.
ويعتبر البلد أحد أكبر مستوردي القمح في العالم، حيث تنفق الدولة قرابة 2.1 مليار دولار سنويا لشراء شحنات من الخارج، معظمها يأتي من روسيا، التي تعد أكبر منتجي العالم إلى جانب أوكرانيا.
ويتحرك الجيش من خلال الجهاز لتحصين الأمن الغذائي وفق مسارين، الأول يعتمد على زيادة مساحة الرقعة الزراعية المخصصة للسلع الأساسية مثل القمح عبر مشروع عملاق في الدلتا الجديدة، والثاني التحكم في شراء وتوريد ما تحتاجه الدولة من غذاء بأسعار معقولة.
وكلّف السيسي الحكومة في أغسطس الماضي بطرح أكبر مناقصة قمح على الإطلاق في محاولة لتأمين أسعار زهيدة بعد انخفاض في المعيار العالمي للحبوب، لكن هيئة السلع أخفقت في تحقيق المستهدف لأسباب روتينية عززت الاعتماد على المؤسسة العسكرية لإنجاز المهمة.
كما أن جزءا من أسباب دخول الجهاز العسكري في تأمين احتياطي من القمح، أن وزارة التموين تتعاطى مع المزارعين بسياسة مرفوضة من أغلبهم، تعرضهم لخسائر فادحة، وتلزمهم بتسليم ما يوازي 60 في المئة من إنتاج القمح بسعر منخفض.
وتدرك القاهرة أن تصاعد حدة الصراعات في المنطقة يقود إلى ارتفاع أسعار القمح، وطالما بدأت تتوافر العملة الصعبة التي تُمكنها من الاستيراد بوتيرة أسرع، فلا بد من التعاطي مع الملف بطريقة تحفظ الأمن القومي الغذائي بدون روتين.
ويعتقد اللواء فاروق المقرحي مساعد وزير الداخلية السابق وعضو مجلس الشيوخ (الغرفة الثانية للبرلمان) أن المنطقة مقبلة على وضع شديد الاضطراب. وقال في تصريح لـ”العرب” إن “الغذاء أمن قومي، وإذا حدثت أزمة مفاجئة في هذا الملف وصارت هناك صعوبة في توفير أي سلعة لن يسأل المواطن عن السبب بقدر ما سيوجه غضبه تجاه السلطة.”
وأوضح أن دخول الجيش طرفا في توفير الغذاء ضرورة وقت التحديات، وأي دولة لديها توقعات بتوترات محيطة بها تعتمد على القوات المسلحة في تأمين احتياجاتها والتعامل مع الأمر بصرامة.
كما شدد المقرحي على أن ما يحدث في قضية الغذاء “ليس عسكرة”، وإنما انضباط وسرعة إنجاز قبل فوات الأوان. ولفت إلى أن العالم مقبل على مجهول مع عودة دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، وهناك شواهد عديدة على دخول الإقليم في صراعات أخطر. وقال إن “هذا جزء من الاعتماد على الجيش لتأمين الاحتياجات بعيدا عن المخالفات التي وقعت من قبل داخل بعض الهيئات المعنية بشراء وتوريد السلع الأساسية.”
ويتحصن الجيش بقانون صادق عليه البرلمان يسمح له بالتدخل لمنع التلاعب في أي نوع من أنواع السلع الأساسية، مع إخضاع مثل هذه الجرائم لاختصاص القضاء العسكري ضمن توجه للتعامل بحسم مع من يخطط للتلاعب بسلعة شعبية.
وبنى معارضون لحضور الجيش في ملف السلع الأساسية رفضهم على أن تدخله قد يتسبب في غلق المجال على القطاع الخاص مقابل توسيع صلاحيات الجيش كبديل عن التجار والهيئات المدنية، بما يؤثر سلبا على جذب الاستثمارات.
ويؤيد الكثير من المواطنين حضور المؤسسة العسكرية بشكل قوي وفعّال في ملف السلع ليردع الفاسدين والمحتكرين، في ظل إخفاق الحكومة ومؤسساتها الهشة في ضبط إيقاع السوق ومنع استغلال الأزمة الاقتصادية لجني مكاسب بلا وجه حق.
وتعبر الخطوة عن استمرار قناعة الرئيس المصري بأن المؤسسة العسكرية هي الوحيدة القادرة على مساندته وقت التحديات وفقدان الأمل في الجهاز الحكومي المدني، لأن بعض الملفات الحيوية التي تحتاج إلى حسم لا تُنجز سريعا من قبل الجهات المدنية وقت التحديات.