هكذا تهجرني الكلمات

الأحد 13 ديسمبر 2020 5:28 م

حين نلوذ بالصّمت أمام هول المصائب، فإننا نظل نفكر لكن الكلمات لا تجد طريقها إلى مسامع الآخرين، ومع ذلك فهناك من يقرأ ما يدور بداخلنا، صحيح أن القراءة هنا لا تكون مكتملة لجهة تحديد القضايا بالتفصيل مثلما ننطق بها، لكنها مشاركة وجدانيّة من طرف الآخرين، ليس فقط لأننا نودّ ذلك وإنما لأن هناك حاجة إنسانية للحديث، وإن سيطر عليها في الغالب حب الفضول، لنخوض وإن قلنا حكمة في قضايا الغير، وكأننا نتفادى الحديث أو نعوض أو ربما نشغل غيرنا حتى لا يتدخّل ـ وقد يكون محقاً ـ في حياتنا بأبعادها وامتداداتها، وعلاقتها الظاهرة والخفية، مع أننا لا نسلط على أنفسنا رقيباً حتى نُقدِم مختارين أو مجبَرين إلى عوالم خاصة لبشر نعيش معهم العمر كله، ونكتشف في النهاية أننا لم نعرفهم.

آه، من ذلك النقص الذي يعتري أنسيتنا، حين تهجرنا الكلمات، كقول أحدنا: إني عاجز عن الكلام، وأنا اليوم واحد من ملايين البشر الذين هجرتهم الكلمات، إذ لأول مرة منذ أن بدأت الكتابة في خطاب، متواصل مع الآخرين، أجدني في حال من العجز البيّن عن تفسير ما يدور بداخلي، ليس فقط لأن هناك مواقف خاصة وأخرى عامة تثقل كاهلي، وتشلُّ عقلي عن التفكير، لما أجرح بالنهار فتأتي أيامي في بُعدها الفردي والجماعي والقومي «كَلْمى هزيمة»، ولكن لأن الهجر نوع من الرحيل الأولي لكشف بعثرة قد لا يُجمَع فيها شتات الذّاكرة مرة أخرى، ألا تكون ـ من حيث أدري أو لا أدري ـ بداية الطريق إلى الأفق الزمني، حيث تجمع البداية والنهاية معاً.. إنها أفق «الأجل المسمّى».

قد يبدو للقارئ أن ما أتيت على ذكره مناقض لواقع المقال.. إنه قول غير مؤزر بأدلة قاطعة، فعن أي هجر للكلمات وأنا أكتبها، وهو على صواب إذا نظر إلى الأمر من زاوية أن الكلمات مجسدة هنا كنصّ، لكن ليس ذاك ما أعنيه، إنما القصد أن الكلمات أوجهها للعيون لتقرأها، لكن لو طُلب اليوم أن أتحدث بها نُطقاً على مسامع الناس ما استطعت لذلك سبيلاً، وليس صمتي مخافة ألا أقول خيراً، ولكن لأني منزعج جدّاً: كيف لبيئة صالحة أو هكذا يُخيّل إلينا، لا تنتج أناساً صالحين، ولغة طيبة؟ عزاؤنا الوحيد في القناعة الإيمانية للمنطقة الفاصلة بين فلاح الإنسان عند تزكية نفسه، أو خيبته عند دسّها.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر