الكُتُب في الماضي البعيد كانت أرواحاً مُجنَّدة، جاءتنا منه محمَّلةً بالمعارف والعلوم ـ فأثّرت وأَثْرَت، وعَبَرَت وعبَّرت عن الأزمنة والأمكنة، وأدخلت البشر عوالم غيب من الماضي، لم يعيشوها إلا نَصّاً، ومع أنهم اختلفوا حولها قبولا ورفضا، ودخلوا معها في تقييم وأحيانا في تقويم، أو خصومة، إلا أنها ظلّت شاهدة على منجزهم العملي، الذي ميَّزهم عن الكائنات الأخرى.
تلك الكُتُب ــ في الماضي السّحيق ــ كانت محدودة النسخ، لدرجة تُثير دهشتنا في الوقت الحاضر، لنتساءل: كيف عَبَرَت الفضاءات وقت صدورها أوَّلاً، واللغات والثقافات ثانياً، والأزمنة ثالثاً؟.
وفي الماضي العربي القريب، الذي يؤسس لحاضرنا، ارتبطت الكُتُب ــ ظهوراً وقراءةً ــ بحواضر ثقافيَّة بعيْنِها، وبالرغم من كوننا حديثي عهد لجهة الاقبال على القراءة لأسباب كثيرة، إلا أن دولنا شهدت اقبالاً ملحوظاً في اقتناء الكتب، بل وفي القراءة معظم الكتابات، خاصة ما تنشره الصحافة الورقيّة.
وبه تخرَّج الملايين من حملة الشهادة، وظننا أننا قادرون على الولوج في عالم الوعْي من خلال المطالعة، اكتشفنا أن التوازن بين المنتج ـ كِمِّيّاُ على الأقل ـ وبين الاستهلاك المعرفي أو القرائي، إن حقَّ لنا تسميّتُه بذلك، أدَّى إلى تزييف في الوعي الجمعي، مع أن وفرة وسائل تبادل المعرفة مقارنة مع العقدين الماضيين، تَشِي بظاهر مختلف عن الباطن تماما حيث الترويج إلى القول: أننا نقرأ.. لكن ماذا نقرأ؟، ولمنْ نقرأ؟، إذا كان عدد الكُتَّاب أكثر من عدد القراء.
اليوم، وفي ظل زيادة مضطردة لطباعة الكتب ومنافسة شديدة بين الحرف والصورة، والكفة راجة لهذه الأخيرة، نغادر فضاءات المعرفة لجهة البحث عن كُنْه الأشياء، ومعاني الوجود، وقيمة العلاقات بعد تراجع" متعة القراءة".
وبالمقابل، ندخل عوالم" جاذبيّة الصورة"، مع أن الأرقام من ناحية نشر الكتب، تقدم وشاية لا تحقق هدفها لجهة القول: أن هناك انتاجاً كِتَابِيّاً، خاصة حين يتعلق الأمر بالكتابات الأدبية، وبالأخص الرواية.
الزيادة في نشر الكتب، وما يسبقها أو يلحق بها من ظهور كل يوم لكُتَّاب جُدد، أمر مخيف لدرجة الرّعب، والمفترض أن يكون ظاهرة صحيّة، والسبب في ذلك النقصان الملحوظ في عدد القرّاء، وإن قالت مواقع ومنصات التواصل الاجتماعي غير هذا.
وليس صحيحاً تلك الأقاويل الشائعة من: أن القرَّاء هم متمركزون اليوم عند" الكتاب الإلكتروني" أو" المسموع"، والدليل عن ذلك ضيق مساحة الوعي والصدق، واتِّساع مجالات الزيف والكذب، وغياب متعة القراءة، وحضور" شهوة ـ غير متناهية ـ للصورة، وغياب كلي لمتعة المعرفة، من حيث هي بداية الحضارة ونهايتها.