لم تكن السنوات التي قضاها الشاعر الراحل حبيب الصايغ بيننا وبين من سبقونا عمراً مقتطعاً من حياة الإمارات والوطن العربي كله فقط، حيث الذهاب بعيداً في غرور الدنيا وزخرفها، ولكنها كانت وجوداً فيزيقيّاً ومعنويّاً، ولغة تعبير عن قضايا ومواقف، تحمَّس لها رفضاً، لو عايشها اليوم ما قبلها بكل تأكيد، أو كان قد أوجد لها صيغة تجعلها مُبرَّرة، بدون أن يطوع الثوابت لصالح المتغيرات.
لذلك نسأله اليوم عنها مثلما سأل هو الشاعر السياب عن الموت وما بعده، ولا شك أن آخر مقال نشره قبل الرحيل يجيب عن بعض مما يدور في أذهاننا من أسئلة، ماكثة في القلب، حيث لم يعد اللسان عنها دليلاً، في ظل متغيرات سياسية تعيشها المنطقة هي أقرب إلى الزلازل الكبرى، ذات التوابع، وإن كانت الأرض لم تخرج أثقالها بعد.
حبيب.. أيها الغالي على مستوى الكلمة ـ وفي البدء كانت هي ـ ولا أقصد تراكم الكلمات عدداً في قصائد ودواوين باقية لحين من الدهر، ولكني أعني صداها المتردد في فضاءات الوجود، وأعماق القلوب والأفئدة.. أفتقدك اليوم بزينتك المعرفيّة، بالرغم من أنني أراك حاضراً، أو هكذا أحسُّ، حاضراً بالمعنى القيمي للحياة، وقد دلَّت كتابات وندوات ومحاضرات وأنشطة جمّة داخل الإمارات وخارجها على أهمية ما قدمت.. وكأن الغطاء كشف عنا بعد وفاتك، فعرفناك على حقيقتك، حيث غدوت أكبر وأهم وأنبل بعد الرحيل.. أكُنَّا نبغي أن ترحل مُبِّكراً حتى نعترف بأنك سلكت طريق الإبداع بحق بغض النظر عن الجانب الطيني فيك وفينا؟!
حبيب.. أحن إلى معرفة رأيك في أحداثنا الراهنة، وأعرف أن الأسئلة لا توجه لمن رحلوا، وإنما لمن هم أحياء مثلنا، غير أن الأحياء أنواع، منهم النائمون ـ وهم كثرة ـ الذين يوقظهم الموت، وأنت قبل الموت كنت تبوح لي سرّاً في أحيان كثيرة، وتعلن جهراً حيناً، بمواقف رفض لما كنت تراه آتٍ في المستقبل المنظور، وعلى ما فيه من عدم حسم بيننا اليوم، حيث جهودنا المستباحة والمقسومة بين التحدي والاستجابة من هول الصدمات لأكثر من أربعة عقود، إلا أن التاريخ سيجل موقفك الحاسم، وسيكون ضمن ما في صحفيتك.. إنه موقف يقرأ في كتاباتك الدنيوية، وكتابك الأخروي، وذاك هو الحضور الخالد.