ليس إحراق القنصلية الإيرانية في النجف وردود الفعل الوحشية عليه والتي استهدفت العراقيين في مدن عدّة، أبرزها الناصرية، حدثا عابرا. الدليل على ذلك أن رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي ينوي تقديم استقالته، على الرغم من تمسّك إيران به. يظهر ذلك عمق الأزمة العراقية من جهة وتفلّت العراق من إيران من جهة أخرى.
بعد ستة عشر عاما على سقوط صدّام حسين، فشلت إيران في كسب ولاء العراقيين، خصوصا الشيعة العرب الذين قاوموا، في معظمهم النفوذ الإيراني في العراق وما زالوا يقاومونه إلى اليوم بصدورهم العارية.
أرادت إيران، منذ قيام “الجمهورية الإسلامية” في العام 1979 تصدير ثورتها إلى العراق. كان العراق الهدف الأول لآية الله الخميني. لهذا السبب كانت الحرب العراقية- الإيرانية بين 1980 و1988، وهي حرب حالت، على الرغم من عبثيتها والخسائر الفادحة التي أدت إليها، دون انهيار “خط الحدود الفاصل بين حضارتين”، على حد تعبير الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في سياق تبريره لدعم العراق عسكريا في تلك الحرب. بقيت الحدود العراقية- الإيرانية طوال قرون رمزا للتوازن القائم في المنطقة، وهو توازن ما لبث أن انهار بعد العام 2003 برغبة أميركية.
لم يحل الفشل الإيراني في حرب 1988-1980، دون تكرار المحاولة الإيرانية للسيطرة على العراق تطبيقا للنظرية القائلة إنّ الرابط المذهبي يتفوّق على الرابط القومي والوطني. معنى ذلك من وجهة النظر الإيرانية التي روّج لها الخميني، ثم خليفته علي خامنئي أن الرابط المذهبي كفيل بتحويل العراق إلى محميّة إيرانية. لم تتنبه إيران في ما بعد 1979 في أي وقت إلى أنّ المرجعية الأولى للشيعة هي في النجف وليس في قمّ.
هذا هو، في ما يبدو، البعد الأوّل لإحراق العراقيين لقنصلية “الجمهورية الإسلامية” في النجف. إنّه في الوقت ذاته إحراق للأوهام الإيرانية التي جرّت إلى حرب السنوات الثماني وإلى التهديدات الإيرانية المستمرّة لدول الخليج العربي، في مقدّمها المملكة العربية السعودية. بلغت هذه التهديدات في مرحلة معيّنة، خصوصا في ثمانينات القرن الماضي، السعي إلى تسييس الحج وتحويله إلى تظاهرة ترفع شعارات لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالدين الحنيف.
ما يحدث في العراق لا يقلّ أهمية عمّا يحدث داخل إيران نفسها. ما يحدث في العراق هو الدليل الأبرز لسقوط المشروع الإيراني الذي استعاد حيويته بعد الاجتياح الأميركي للعراق في العام 2003. حصلت في تلك السنة حرب أميركية على العراق توّجت بسقوط النظام. كانت إيران شريكا في تلك الحرب التي بدأ الشعب العراقي منذ ما يزيد على سنة يمحو نتائجها.
ظهر بكل بساطة أن مشروع سيطرة إيران على العراق لم يكن نزهة. يعود ذلك إلى أسباب عدّة في مقدّمها أن العرب عربٌ والفرس فرسٌ وأنّ ليس كافيا أن يكون هناك رابط مذهبي كي تزول الحدود بين بلدين يختلف كلّ منهما عن الآخر في أمور كثيرة. فوق ذلك كلّه يتبيّن أن العراق ليس مستعدا للعيش في ظلّ نظام سمح لإيران بأن تصبح صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد من هو رئيس الوزراء العراقي. في النهاية، إن عادل عبدالمهدي، الذي يفترض أن يكون قدّم استقالته، وجد نفسه في هذا الموقع لأنّ إيران تريده أن يكون فيه. لا وجود لسبب آخر لتوليه منصب رئيس الوزراء بعد انتخابات الثاني عشر من أيّار/ مايو 2018، باستثناء أن إيران وضعت فيتو على عودة حيدر العبادي إلى رئاسة الوزراء، تماما كما حصل مع إيّاد علّاوي في العام 2010.
كشف إحراق القنصلية الإيرانية في النجف حقيقة إيران. اسقط العراقيون تلك الهالة التي أحاطت بها “الجمهورية الإسلامية” نفسها. هناك مشروع توسّعي إيراني غير قابل للحياة سقط أوّل ما سقط في إيران نفسها حيث الثورة الشعبية مستمرّة. في إيران، لا تزال النار تحت الرماد، خلافا لما يقوله خامنئي عن “إسقاط مؤامرة خطيرة وعن مشاركة أميركية وإسرائيلية في تلك المؤامرة. هناك مؤامرة إيرانية على إيران. هناك نظام إيراني لا يدرك أنّ لعب دور القوّة الإقليمية في المنطقة يحتاج إلى مقوّمات. في مقدّم هذه المقوّمات اقتصاد قويّ متنوّع لا يعتمد على دخل الغاز والنفط فقط.
في نهاية المطاف، لم يعد لدى إيران ما تصدّره سوى الميليشيات المذهبية. ما يرفضه العراقيون قبل أيّ شيء هو هذه الميليشيات وسعي إيران إلى بناء نظام تابع في العراق يكون فيه “الحشد الشعبي” بمثابة فرع من “الحرس الثوري” الذي يشكل العمود الفقري لـ”الجمهورية الإسلامية” في إيران.
من العراق، كانت الانطلاقة الجديدة للمشروع التوسّعي الإيراني في العام 2003. ومن العراق، يبدأ تراجع هذا المشروع بعد انكشافه. لا يوجد أدنى شكّ في أن العقوبات التي فرضتها إدارة دونالد ترامب أدّت إلى ضغوط لا سابق لها على إيران وعلى قدرتها في مجال التوسع وصولا إلى الإعلان عن أنّ طهران صارت تتحكّم بأربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء.
ما يشهده لبنان حاليا من ثورة على “عهد حزب الله”، أي على النفوذ الإيراني، يبدو تفصيلا مقارنة مع ما يحدث في العراق. تعتقد إيران أنّها استطاعت إسكات الثورة الشعبية فيها وأن الوضع عاد إلى طبيعته في ضوء ممارسة أشدّ أنواع القمع مع الإيرانيين. هؤلاء لم ينتفضوا ليعودوا إلى بيوتهم. يعود ذلك إلى أن ليس لدى النظام الإيراني ما يعالج به الاقتصاد باستثناء مفاوضات جدّية مع أميركا تتناول ما هو أبعد من الملفّ النووي. مثل هذه المفاوضات لا بدّ أن تتطرق إلى السلوك الإيراني في المنطقة.
لن تكون المنطقة بعد أحداث العراق كما كانت عليه قبلها. لن يكون العراق الجائزة الكبرى التي حصلت عليها إيران جراء الحرب الأميركية في 2003. عندما تتكلّم لغة الاقتصاد والأرقام، تخرس اللغات الأخرى، بما في ذلك لغة الشعارات الفارغة من نوع المزايدات في كلّ ما يخصّ القدس وفلسطين. ها هي إسرائيل ضمّت القدس من دون أن تفعل إيران شيئا.
هناك لعبة انتهت بعد انتفاضة العراقيين على إيران. لم يتغيّر شيء مع استبدال عادل عبدالمهدي ضابطا في الجيش العراقي بآخر أو مع إقالة الضابط المسؤول عن خلية الأزمة في محافظة ذي قار أو مع الوعد بإجراء تعديل وزاري قبل اضطراره إلى الاستقالة شخصيا.
هناك سؤال في غاية البساطة يطرح نفسه في ضوء ما شهده وما لا يزال يشهده العراق. هل إيران دولة طبيعية أم لا؟ هل في استطاعتها التصالح مع شعبها قبل التفكير في وضع يدها على العراق وسوريا ولبنان واليمن؟