انتهت مجموعة “”فاغنر” أم لم تنته؟ ليس هذا هو السؤال. السؤال ما الانعكاسات لاغتيال يفغيني بريغوجين، في عملية استهدفت تفجير طائرته، على الوضع الروسي برمته؟ يشمل ذلك في طبيعة الحال المستقبل السياسي لفلاديمير بوتين الذي ارتكب خطأ قاتلا عندما قرّر اجتياح أوكرانيا.
كان لافتا قول المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركيّة (البنتاغون) بيت رايدر، لدى سؤاله عن صفقات وشيكة بين “فاغنر” وكوريا الشمالية، إنّ “فاغنر كقوة مقاتلة انتهت عمليّاً مع مقتل بريغوجين”. وأضاف “في مرحلة ما، كانت فاغنر أكثر القوات القتالية الروسية فعالية على الأرض في أوكرانيا… لكن جرى عمليّاً سحبهم (مسلحو فاغنر) من ساحات المعارك”. يستند تقييم المتحدث باسم “البنتاغون” إلى رسالة صوتية تخص مسلحي “فاغنر”، وهم من المرتزقة وخريجي السجون على إيجاد وظائف جديدة، بعدما مُنعوا من الاستمرار بالقتال في أوكرانيا.
تتجاوز أبعاد الحدث المتمثل في اغتيال بريغوجين مع عدد من كبار مساعديه روسيا نفسها. يعود ذلك إلى أنّ “فاغنر” موجودة في مناطق مختلفة، بينها سوريا حيث استعادت لمصلحة النظام حقولا نفطية عدّة في العام 2017. في مقابل ذلك، كان بريغوجين يحصل على نسبة 25 في المئة من عائدات هذه الحقول، وهي نسبة يطالب النظام السوري بتعديلها في ضوء الأزمة الاقتصاديّة الحادة التي يمرّ فيها.
◙ الحياة من دون "فاغنر" ستكون صعبة على بوتين الذي تبيّن أنّه لا يعرف العالم والتوازنات القائمة فيه ولا يعرف على وجه الخصوص أنّ روسيا غير مستعدة لخوض حرب طويلة
إلى ذلك، إنّ مجموعة “فاغنر” موجودة عسكريا في دول أفريقية عدّة، بينها أفريقيا الوسطى ومالي وبوركينا فاسو. ثمّة من يؤكد وجودها في السودان وليبيا أيضا. تمثّل “فاغنر” رأس الحربة بالنسبة إلى روسيا في مختلف أنحاء العالم. من الواضح، أنّ الجيش الروسي، في ضوء أدائه في أوكرانيا، لن يكون قادرا على ملء الفراغ الذي خلفه غياب بريغوجين الذي دفع ثمن تحديه لبوتين.
ستكون المؤسسة العسكريّة الروسيّة في الأسابيع القليلة المقبلة أمام تحديات عدّة من بينها ذلك المتمثل في غياب “فاغنر”. لا يقتصر الأمر على أوكرانيا وحدها حيث استطاعت “فاغنر” تحقيق تقدّم لمصلحة “العمليّة الخاصة” التي شنتها روسيا، وهي مجرّد غزو شبيه بغزو صدّام حسين للكويت في العام 1990. ثمّة تساؤلات عن كيفيّة إدارة الحرب الأوكرانيّة في غياب “فاغنر” وعن وضع روسيا في سوريا وأفريقيا أيضا. صحيح أنّ الهجوم الأوكراني المضاد الذي بدأ قبل ثلاثة أشهر تعثّر، لكن الصحيح أيضا أن هذا الهجوم المضاد بدأ في الأيّام القليلة الماضية يحقّق بعض التقدم في اتجاه تحطيم بعض خطوط الدفاع الروسيّة المهمّة، وإن ببطء شديد.
لا يمكن في أيّ حال تجاهل أنه سيكون على فلاديمير بوتين خوض حرب طويلة في أوكرانيا، من دون “فاغنر”. فضّل في نهاية المطاف التخلّص، على طريقته، من يفغيني بريغوجين على العيش في ظلّ تلك الصداقة المزعجة والمكلفة في الوقت ذاته.
ليس معروفا هل يستطيع الرئيس الروسي خوض حرب طويلة في أوكرانيا من دون إعادة تكييف نفسه مع المستجدات، بما في ذلك انتقال أوكرانيا إلى ضرب مواقع في الداخل الروسي بواسطة مسيّرات متطورة. يتحدث الجانب الروسي عن تدمير عدد كبير من هذه المسيرات، لكن ما لا يمكن تجاهله أنّ أوكرانيا توجه ضربات قوية إلى روسيا تشمل منشآت عسكرية، كما تعطل بين حين وآخر حركة الطيران في مطارات موسكو.
سيتوجب على فلاديمير بوتين دفع ثمن ارتكابه جريمة غزو دولة مستقلّة اسمها أوكرانيا متجاهلا أن الأوكرانيين، مع شعوب أخرى، ذاقوا طعم الحرّية منذ خروجهم من ذلك السجن الكبير الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي الذي انهار أواخر العام 1991. في النهاية، فشل الرئيس الروسي، الضابط السابق في المخابرات السوفياتية (كي. جي .بي)، في استيعاب الأسباب الحقيقية التي أدت إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهائه بالطريقة التي انتهى بها.
سيستمر فلاديمير بوتين في العيش في ظلّ وهم استعادة أمجاد غير موجودة، هي أمجاد الاتحاد السوفياتي، لكنّه سيتوجب عليه التعاطي مع حقيقة أن “فاغنر” لم تعد موجودة من جهة وأن حرب أوكرانيا ستكون طويلة من جهة أخرى. الأكيد أن إعادة كتابة تاريخ روسيا وفرض كتاب التاريخ الجديد على الطلاب الروس لن يفيد في شيء، خصوصا في ضوء القرار الأميركي والأوروبي القاضي بالذهاب إلى النهاية في الحرب الأوكرانيّة. عاجلا أم آجلا، ستكون لدى أوكرانيا طائرات “إف – 16” ستحصل عليها من دول عدة مثل هولندا والدانمارك. هناك، فوق ذلك كلّه، إصرار لدى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على استعادة شبه جزيرة القرم.
◙ أبعاد الحدث المتمثل في اغتيال بريغوجين مع عدد من كبار مساعديه تتجاوز روسيا نفسها. يعود ذلك إلى أنّ "فاغنر" موجودة في مناطق مختلفة، بينها سوريا
سيتوجّب على فلاديمير بوتين الاتكال أكثر على الحضنين الإيراني والصيني وشراء أسلحة من كوريا الشمالية لمتابعة حربه على أوكرانيا. الأهم، أنّه سيكون عليه العيش من دون يفغيني بريغوجين و”فاغنر”. سيكون عليه التعوّد على الحياة من دون “فاغنر”. لن يدفع ثمن الحسابات الخاطئة التي جعلته يعتقد أنّ غزو أوكرانيا مجرّد نزهة، على غرار النزهة السوريّة فقط. مشكلته الأساسية في أنّه لم ينظر جيدا إلى موقع أوكرانيا على الخريطة الأوروبيّة وماذا يعني سقوطها في يد روسيا وتأثير ذلك على كلّ دولة أوروبيّة.
الحياة من دون “فاغنر” ستكون صعبة على بوتين الذي تبيّن أنّه لا يعرف العالم والتوازنات القائمة فيه ولا يعرف على وجه الخصوص أنّ روسيا غير مستعدة لخوض حرب طويلة. ثمّة رفض لدى الشعب الروسي لمثل هذه الحرب، لا لشيء سوى لأن البلد يمرّ بأزمة خطيرة بسبب النقص في الولادات من جهة وعدم القدرة على بناء اقتصاد منتج من جهة أخرى.
من بين ما يدفع ثمنه فلاديمير بوتين أيضا الاعتماد على أصدقاء مثل يفغيني بريغوجين أمضوا بعض سنوات العمر في السجون. كيف يمكن لحاكم بلد مهمّ، مثل روسيا، يسعى إلى أن يكون قطبا عالميا، أن يكون بريغوجين، لسنوات طويلة، من المنتمين إلى الحلقة القريبة منه؟
مجرد طرح مثل هذا السؤال يفسّر، إلى حد كبير، خلفيات الكارثة الروسيّة بكلّ أبعادها.