مع دخول الحرب الأوكرانيّة يومها الـ300، ذهب فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن، وراح فلاديمير بوتين يهدّد ويتوعّد ويشهر السلاح النووي غير مدرك أنّه خسر الحرب التي باتت الحدث الأهمّ في العام 2022. خصص الرئيس الروسي الكلمة التي ألقاها في مقر وزارة الدفاع لرفع المعنويات لدى الشعب الروسي غير مدرك أنّ هذا الشعب لا يريد حربا مع أوكرانيا.
هناك نقطتان لا بدّ من التوقف عندهما في ضوء زيارة الرئيس الأوكراني إلى واشنطن وكلام الرئيس الروسي. تتمثّل النقطة الأولى في أنّ الدعم الأميركي والغربي لزيلينسكي مستمرّ. تتمثّل النقطة الأخرى في أن بوتين يرفض الاعتراف بأنّه فشل من جهة ومستعد للتصعيد من جهة أخرى. بكلام أوضح، يرفض الرئيس الروسي الإقرار بأن حساباته كانت خاطئة منذ البداية وأنّ مجرّد صمود كييف كان نقطة التحوّل في حرب كانت فخّا نصبه الرئيس الروسي لنفسه قبل أن ينصبه له الآخرون.
يتبيّن كلّما مرّ يوم ضعف الجيش الروسي وعجزه عن خوض حروب خارج أرضه. والفارق الشاسع بين مستوى الأسلحة الروسيّة والأسلحة الغربيّة، خصوصا الأميركيّة. كذلك، يتبيّن أن فلاديمير بوتين، الذي جاء تفجير الجسر الذي يربط البرّ الروسي بشبه جزيرة القرم في يوم عيد ميلاده السبعين، في تشرين الأوّل – أكتوبر الماضي، لا يعرف العالم.
◙ كيف يمكن لحاكم اتخاذ قرار باجتياح بلد آخر من دون معرفته حقيقة قدرات جيشه وإمكاناته ومدى تخلّف السلاح الذي يمتلكه هذا الجيش
هناك جوانب في شخصيّة الرئيس الروسي تشبه ما كان في شخصيّة صدّام حسين الذي اجتاح الكويت صيف العام 1990 بعدما تحكّم به جهله بالتوازنات الإقليميّة والدوليّة. لم يفهم ما قالته له السفيرة الأميركيّة أبريل غلاسبي عن أن الولايات المتحدة لن تتدخل عندما يتعلّق الأمر بخلاف كويتي – عراقي في شأن حقل نفطي. ظنّ أن ذلك بمثابة ضوء أخضر لاجتياح الكويت. لم يفهم صدّام أيضا أن العالم تغيّر وأن الاتحاد السوفياتي لم يعد قوّة عظمى في اللحظة التي سقط فيها جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر من العام 1989. اتكل على توازن دولي لم يعد موجودا. ما لم يفهمه على وجه التحديد أنّ عوامل عدّة سمحت للجيش العراقي بتحقيق شبه انتصار على إيران، وهو شبه انتصار لا يمكن استثماره بالذهاب إلى الكويت والدخول في مساومة مع أميركا من موقع قوّة.
يدفع بوتين بدوره ثمن جهله التام بالعالم. خاض مغامرته الأوكرانيّة من دون إدراك لأهمّية هذا البلد بالنسبة إلى أوروبا وأنّ سقوطه يعني سقوط أوروبا كلّها. لم يدرك أن مثل هذا السقوط ليس مسموحا به، لا أميركيا ولا أوروبيا. كلّ ما في الأمر أنّ الرئيس الروسي، الذي يجهل حقيقة الوضع داخل الجيش الروسي، يجهل أيضا ما هو مسموح به وما هو محظور على دولة مثل الاتحاد الروسي. مسموح لروسيا ممارسة القمع في جورجيا التي سبقها شنّ حرب على الشيشان. مسموح لها باستعادة شبه جزيرة القرم من أوكرانيا من منطلق أن شبه الجزيرة هذه كانت روسيّة في الماضي. مسموح لها التدخّل في سوريا وقتل الآلاف من السوريين وتدمير مستشفيات ومدارس إرضاء لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي لديها مصلحة في المحافظة على النظام الأقلّوي في هذا البلد.
بالنسبة إلى فلاديمير بوتين، اختلط المحظور عليه بالمسموح به. لم يعرف أنّ تهديد العالم بسلاح النفط والغاز خطيئة لا يمكن لأوروبا أن تغفرها له. لا يصلح سلاح الغاز لابتزاز أوروبا، مثلما لا يصلح السلاح النووي لممارسة مثل هذا الابتزاز. بكلام أوضح، ليس مقبولا في القرن الحادي والعشرين احتلال دولة لأراضي دولة أخرى ثم دعوتها هذه الدولة إلى التفاوض… أي إلى الاستسلام والتسليم بالأمر الواقع.
انتهى الاتحاد السوفياتي إلى غير رجعة. توقعت المؤرخة الفرنسية هيلين كاريردونكوس منذ أواخر سبعينات القرن الماضي انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابها المشهور الذي عنوانه “الإمبراطوريّة المتشظّية”. صدر الكتاب في العام 1978. استندت في توقعاتها إلى أن الاتحاد السوفياتي كان يضمّ جمهوريات إسلاميّة يرفض مواطنوها الأيديولوجيا التي تفرضها موسكو. ظهر مع الوقت أن توقعات المؤرخة الفرنسية، وهي من أصول جورجية، لم تكن في محلها كلّيا. بدأ انهيار الاتحاد السوفياتي بخروج بلدان البلطيق (إستونيا وليتوانيا وليتونيا) منه. لكنّ المفارقة، في ضوء الحرب الأوكرانيّة، أنّ جمهوريات في آسيا، كانت في الماضي جمهوريات سوفياتيّة، بدأت تظهر عداء لموسكو وترفض أيّ هيمنة روسية عليها، حتّى لو كانت هذه الهيمنة من بعيد. بات على المحكّ مستقبل الاتحاد الروسي.
◙ يتبيّن كلّما مرّ يوم ضعف الجيش الروسي وعجزه عن خوض حروب خارج أرضه. والفارق الشاسع بين مستوى الأسلحة الروسيّة والأسلحة الغربيّة، خصوصا الأميركيّة.
المسألة كيف يمكن لحاكم يمتلك حدّا أدنى من المنطق والواقعيّة خوض حرب في القارة العجوز، تُعتبر الأولى من نوعها منذ نهاية الحرب العالميّة الثانيّة، متّكلا على الروح الوطنيّة الروسيّة… في حين أن الاقتصاد الروسي، على الرغم من كلّ ما تمتلك روسيا من ثروات، دون حجم الاقتصاد الإيطالي؟ كيف يمكن لحاكم اتخاذ قرار باجتياح بلد آخر من دون معرفته حقيقة قدرات جيشه وإمكاناته ومدى تخلّف السلاح الذي يمتلكه هذا الجيش. الأكيد أنّ الكلام عن صواريخ جديدة متطورة لن يغير شيئا. تظلّ الهوة كبيرة بين السلاح الغربي والسلاح الروسي. لن يردم الهوة الاستعانة بالمسيّرات والصواريخ الإيرانية. على العكس من ذلك، ثمة انكشاف لبوتين أمام الغرب، خصوصا لجهة العلاقة بينه وبين نظام الملالي في إيران.
يظلّ السؤال الذي سيفرض نفسه في نهاية المطاف كيف يمكن لشخص مثل فلاديمير بوتين متابعة الحرب الأوكرانيّة في حين يرفض الشعب الروسي المشاركة في مثل هذه الحرب؟
ليس صحيحا أن العالم تآمر على روسيا. لم يطلب أحد من بوتين غزو أوكرانيا وإثارة كلّ المخاوف الأوروبيّة والتسبب بأزمة غذاء وطاقة في العالم. لم يعد الموضوع موضوع حرب خاسرة فحسب، بات الموضوع أيضا موضوع امتلاك فلاديمير بوتين شجاعة الوقوف أمام المرآة وسؤال نفسه كيف يمكن ربح حرب بواسطة جيش لا يريد خوض تلك الحرب لا أكثر ولا أقل؟