صعود وسقوط الوجود الإيراني في البصرة
تسعى إيران إلى أن ترد على اقتحام قنصليتها في البصرة، ما حمله من استهداف مباشر لنفوذها، بتحويل وجهة المعركة نحو إقالة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في خطوة تهدف إلى تحميله مسؤولية الفشل الأمني من جهة، والفشل في الاستجابة لمطالب المحتجين في البصرة، فضلا عن إضعاف حظوظه في ولاية جديدة، خاصة بعد أن انضم حليفه تحالف "سائرون" إلى المطالبة بإقالته.
وبعد جلسة برلمانية خصصت لبحث أزمة البصرة، دعا حسن العاقولي رئيس كتلة “سائرون”، في مؤتمر صحافي، رئيس الوزراء إلى تقديم استقالته “والاعتذار للشعب”.
وقال النائب أحمد الأسدي المتحدث باسم تحالف “الفتح” بقيادة هادي العامري، إن “التقصير والفشل الواضحين في أزمة البصرة كان بإجماع النواب”. وأضاف “نطالب باستقالة رئيس الوزراء والوزراء فورا”.
وفيما أعلنت قيادة عمليات البصرة، السبت، عن فرض حظر التجوال في عموم المحافظة، أكدت قيادة هيئة الحشد الشعبي في محافظة البصرة أنها "ستنزل" إلى الشارع وتتعامل مع المحتجين الذين يستهدفون مقارها أو مقار حلفائها كتعاملها مع "الدواعش".
ومثل اقتحام العشرات من المتظاهرين العراقيين للقنصلية الإيرانية في البصرة مؤشرا قويا على تراجع نفوذ إيران والأحزاب الدينية الموالية لها في العراق. كما حطم العراقيون الشيعة أسطورة ولائهم لإيران، عندما أوغلوا حرقا في كل ما يتصل بطهران على أرض البصرة، لا سيما مقرات الأحزاب والميليشيات، فضلا عن مبنى القنصلية الإيرانية.
ولم يفلح سيل الاتهامات الذي انهالت به الأحزاب العراقية الموالية لإيران على المتظاهرين، ومحاولة تكريس صورة “المندسين الذين يقفون خلف كل أعمال الشغب في التظاهرات”، إلا أن سكان البصرة، وفقا لمراقبين، عبّروا عن غضب هائل ضد النفوذ الإيراني الواسع في مختلف مفاصل الدولة العراقية.
وسعت قيادات موالية لطهران إلى ربط استهداف الوجود الإيراني في البصرة بالمؤامرة الأميركية، في محاولة لامتصاص الصدمة التي أحدثها تحدي الشارع العراقي الشيعي لنفوذ إيران.
وطالب قيس الخزعلي، الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق، رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي بالاستقالة من منصبه على خلفية أحداث البصرة. ويتهم الموالون لإيران رئيس الوزراء العبادي بموالاة الولايات المتحدة وتنفيذ أجندتها في العراق.
وقال الخزعلي في لقاء صحافي إن “أحداث البصرة تقع ضمن المشروع الأميركي لتقسيم العراق ولن نسمح لهم بجرنا للاقتتال الطائفي” وأنه إذا وصلت الأمور إلى الانفلات الأمني سيتدخل الحشد الشعبي.
ويرى مراقبون محليون أن تصريحات الخزعلي، التي تصور الأزمة على أنها مؤامرة أميركية، تسلط الضوء على الأزمة التي انتهى إليها التدخل الإيراني في العراق وفشل حكم الأحزاب الدينية، ما دفع إلى تحرك الشارع العراقي، وخصوصا في المدن والمحافظات المحسوبة على أنها موالية لتلك الأحزاب.
والخزعلي نموذج لفشل الأحزاب والقيادات التي لا تخفي ولاءها لإيران، وهي في الغالب قيادات ضمن الميليشيات التي دربتها إيران وتم الاستنجاد بها لتتحول إلى قيادات سياسية بفكر طائفي.
ونشرت المؤسسة الأميركية للدفاع عن الديمقراطية، الجمعة، جانبا من الاعترافات التي كان قدمها الخزعلي خلال اعتقاله قرابة ثلاث سنوات (2009/2007) لدى الجيش الأميركي واعترف فيها بالعمل لفائدة إيران وتحت امرأة قائد فيلق القدس بالحرس الثوري قاسم سليماني.
والخزعلي واحد من الرموز العديدة التي لديها معرفة داخلية بخطط إيران في ما يتعلق بالعراق. وخلال أحد الاستجوابات قال إنه على “اتصال مباشر بأحد قادة الحرس الثوري الإيراني اللواء سليماني”.
وأعلنت قيادة عمليات البصرة، السبت، عن فرض حظر التجوال في عموم المحافظة من الساعة الرابعة عصرا وحتى إشعار آخر.
وقالت مصادر أمنية إن قوات من الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والاستخبارية تم نشرها في الشوارع الرئيسية، وبالقرب من الأبنية الحكومية لبسط الأمن والاستقرار.
وصباح السبت، تراجع المحتجون في البصرة إلى منازلهم بعد جولة من التظاهرات الدامية، الجمعة، أسفرت عن سقوط ثلاثة قتلى والعشرات من الجرحى، مفسحين المجال لإجراءات سياسية عاجلة، بدأت بعقد البرلمان الجديد جلسة استثنائية لبحث الأزمة وسبل معالجة أسبابها.
ويعاني البرلمان الجديد من انقسام حاد بين فريقين، يسعى كل منهما لتشكيل الكتلة الأكبر التي تملك حق ترشيح رئيس الوزراء الجديد.
وتدعم الولايات المتحدة الفريق الذي يضم رئيس الوزراء حيدر العبادي وزعيم التيار الصدري مقتدى الصدر وزعيم تيار الحكمة عمار الحكيم ورئيس ائتلاف الوطنية إياد علاوي، والزعيم السني أسامة النجيفي، فيما تدعم إيران فريقا يضم زعيم منظمة بدر هادي العامري وزعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي وزعيم حركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، مع عدد من القيادات السنية، مثل زعيم المشروع العربي خميس الخنجر ومحافظي الأنبار وصلاح الدين محمد الحلبوسي وأحمد الجبوري.
ولم تكن جلسة البرلمان الاستثنائية “على قدر التحديات التي تواجهها البلاد”، وفقا لمراقبين، بعدما تحولت إلى فرصة لتوجيه الاتهامات المبطنة وإطلاق الوعود المكررة، التي فشلت السلطات العراقية في الإيفاء بها سابقا.
ويحاول العبادي أن يظهر متماسكا أمام هذه الضغوط، في ظل تضارب التقديرات المتعلقة بحظوظه في الولاية الثانية. وأرسل قوة عسكرية كبيرة لبسط الأمن في المدينة، لكن المصادر المحلية تتحدث عن رغبة واضحة لدى المحتجين بتجنب الصدام مع قوات الأمن العراقية، التي اتهمت من قبل حلفاء إيران بالتواطؤ في تسهيل إحراق مقار حزبية.
واستجاب العبادي لأحد أبرز مطالب المحتجين، عندما استبدل المسؤول العسكري الأبرز في البصرة بضابط مخضرم كان يشرف على تدريب المتطوعين السنة في محافظة الأنبار غرب العراق.
وقالت مصادر مطلعة في بغداد لـ”العرب” إن “العبادي اضطر لإزاحة الفريق الركن جميل الشمري من منصب قائد عمليات البصرة، بعدما اتهمه المتظاهرون أولا باستخدام العنف المفرط ضدهم، ثم اتهمته الأحزاب الموالية لإيران بتسهيل استهداف مقراتها وإحراق قنصلية طهران”.
وجاء العبادي بضابط كبير سبق له أن أحيل إلى التقاعد، قبل أن يكلف بمسؤولية تنظيم عمليات تطوع المقاتلين السنة في الحشد العشائري بمحافظة الأنبار، التي تموّلها الولايات المتحدة الأميركية.
وأحكمت القوات القادمة من بغداد سيطرتها، ظهر السبت، على جميع المواقع التي أخلتها الشرطة والجيش للمتظاهرين في البصرة، ومعظمها دوائر حكومية حساسة ومقار حزبية.
ويضغط حلفاء طهران على السلطات الأمنية العراقية لمراجعة جميع تسجيلات الفيديو التي تظهر محتجين وهم يحرقون مباني بعض الأحزاب، فضلا عن القنصلية الإيرانية في البصرة.
وأعاد نشطاء موالون لأحزاب عراقية قريبة من إيران بث تسجيل مصور لعملية اقتحام القنصلية الإيرانية في البصرة، حيث تظهر وجوه شبان عراقيين يحطمون بعض المحتويات، ويضرمون النار في المبنى.
ويؤكد الهجوم الصاروخي الذي استهدف، مساء الجمعة، مطار البصرة حيث يقع مقر القنصلية الأميركية، تبني الأحزاب العراقية الموالية لطهران فرضية تورط واشنطن في تحريك تظاهرات البصرة وتوجيهها.
وسقطت ثلاثة صواريخ في فضاءات مفتوحة قرب مدرج مطار البصرة، ولم يقع التبليغ عن وقوع ضحايا.
وأدانت الخارجية الأميركية ما وصفته بـ”أحداث العنف في البصرة”. وقالت إن الدستور العراقي ينص على أن “الحق في الاحتجاج السلمي وواجب حماية الممتلكات العامة والخاصة أمران يسيران جنبا إلى جنب”.
وقالت المتحدثة الرسمية باسم الخارجية الأميركية هيذر نويرت، إن بلادها تدين “العنف ضد الدبلوماسيين، بما في ذلك ما حدث في البصرة”، داعية “جميع الأطراف بمن في ذلك قوات الأمن والمتظاهرون إلى دعم حق الاحتجاج السلمي وحماية الدبلوماسيين ومنشآتهم”.
ويقول النائب عن حركة عصائب أهل الحق حسن سالم إن “القضية اليوم هي عبارة عن ثأر أميركي سعودي بأياد عراقية متحزّبة من الذي أسقط مشاريعهم ومخططاتهم، وصرفت مليارات من الدولارات وخابت كل مشاريعهم”.
ووفقا لذلك، فإن سالم يطالب بالتمييز “بين أهالي البصرة الكرماء المتظاهرين المطالبين بحقوقهم وهم يتعرضون إلى إبادة من تلوث المياه والبطالة وانعدام الخدمات، وبين أتباع المشروع الأميركي السعودي وأصحاب نظرية الحرق السياسي”.
وحاول الصدر استغلال الهدوء النسبي في البصرة مقترحا على المحتجين تعليق تظاهراتهم خلال الشهر الجاري، في حال لاحت بوادر استجابة حكومية لمطالبهم.
وطالب الصدر بتشكيل “لجنة نزيهة” تشرف على تلبية الاحتياجات العاجلة لسكان البصرة، لا سيما الماء الصالح للشرب، على أن تنجز مهامها خلال شهر ونصف الشهر. وبخلاف ذلك، حذر الصدر “مما لا تحمد عقباه”.