لم نعد نثق بوعودكم
لم تضع الاحتجاجات الجديدة، التي تشهدها المدن العراقية منذ أيام، الأحزاب والسياسيين في وضع صعب، بل امتدت إلى المرجعية الدينية التي وقفت أخيرا على أن السياسة التي تتبعها، وتقوم على إرضاء الجميع من الأحزاب والسياسيين والشارع العراقي، قد تصل إلى نهايتها، خاصة أن المحتجين الغاضبين، الذين يتظاهرون على أبوابها في النجف، سئموا من الخطاب الداعي إلى التهدئة.
وأعلنت المرجعية الشيعية العليا تضامنها مع المحتجين مطالبة الحكومة بإيجاد حلول سريعة. وقال الشيخ عبدالمهدي الكربلائي، ممثل المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني، في خطبة صلاة الجمعة في كربلاء “ليس من الإنصاف ولا من المقبول أبدا أن تكون هذه المحافظة المعطاء (البصرة) من أكثر مناطق العراق بؤسا وحرمانا”.
وأضاف “على المسؤولين في الحكومتين المركزية والمحلية التعامل بجدية وواقعية مع طلبات المواطنين والعمل على تحقيق ما يمكن تحقيقه منها بصورة عاجلة”.
لكن المرجعية تمنت على المواطنين “عدم اتباع أساليب غير سلمية وحضارية، وألا يسمحوا للبعض من غير المنضبطين أو ذوي الأغراض الخاصة” بالقيام بعمليات تخريب لأن ذلك “سيعوض من أموال الشعب نفسه”.
وقال مراقبون محليون إن أسلوب إمساك العصا من المنتصف قد يقود إلى خسارة المرجعية الهالة الاعتبارية التي تمتلكها لدى الجمهور الغاضب، خاصة أنه لم يعد يخفى ميلها للتغطية على الطبقة السياسية القائمة وحمايتها للاستمرار بنفس سياستها القائمة على الفساد والمحسوبية والارتهان لإيران.
وأشار المراقبون إلى أن ما توجهه المرجعية للأحزاب من نقد هو مجرد ملاحظات جزئية عابرة، وهو ما يفسر إهمال السياسيين لها، واستمرارهم في إدارة الأزمات بنفس الأسلوب.
ولاحظوا أن الاحتجاجات الجديدة في محافظات محسوبة تقليديا على أنها خزان للأحزاب الدينية، ما يجعل أي اتهامات لها بالطائفية أو بمؤامرة خارجية غير ذات معنى، وهو ما يزيد من الضغط على الطبقة السياسية التي بدت مرتبكة وعاجزة عن مخاطبة محتجين لم يغفلوا عن مهاجمة شخصيات حزبية مورطة في الفساد واقتحام مقرات حزبية مختلفة.
وتأججت الاحتجاجات في البداية من محافظة البصرة، التي تعد مركز صناعة النفط في العراق منذ الأحد الماضي، إثر مقتل محتج وإصابة 3 آخرين جراء ما قال محتجون إنه “إطلاق نار لجأ إليه الأمن لتفريق متظاهرين” شمالي المحافظة.
وامتدت المظاهرات، مساء الجمعة، لتشمل محافظات ذي قار وبابل وكربلاء وميسان والديوانية والنجف، فيما واصل المتظاهرون احتجاجاتهم، السبت، في محافظتي بابل والبصرة.
وتتركز مطالب المحتجين على تحسين الواقع المعيشي وتوفير الخدمات الأساسية من قبيل الماء والكهرباء، ومحاربة الفساد المالي والإداري المتفشي في دوائر الدولة ومؤسساتها، وتوفير فرص عمل للعاطلين.
وأمر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي القوات الأمنية برفع حالة التأهب إلى الدرجة القصوى، بالتزامن مع اتساع رقعة الاحتجاجات الرافضة لسوء الخدمات العامة وقلة فرص العمل.
وكانت ليلة الجمعة حافلة في النجف، إذ شهدت اقتحام مطار المدينة الدولي من قبل المحتجين والسيطرة عليه حتى فجر السبت، فيما أضرم المتظاهرون النار في منزل رئيس مجلس إدارته، الذي ينتمي إلى حزب الدعوة بزعامة نوري المالكي، ومنزل نائبه المنشق سابقا عن التيار الصدري بزعامة مقتدى الصدر.
وقالت مصادر العرب في النجف إن نحو 10 آلاف متظاهر خرجوا إلى شوارع المدينة، واقتحموا منطقة المطار مرتين، ثم توجهوا إلى منازل عضوين في مجلس إدارته وأحرقوهما كليا، ما تسبب في موت عاملة أجنبية حرقا.
ويقول المحتجون إن هذين الشخصين يحتكران الانتفاع بعائدات مليونية يوفرها مطار النجف، الذي يتفوق في عدد الرحلات السنوية على مطار بغداد، لأنه محطة الزوار القادمين من إيران ودول الخليج وباكستان والهند للعتبات الشيعية المقدسة في النجف وكربلاء.
وردا على ذلك، أرسلت الشخصيتان المستهدفتان عددا من أنصارهما لإحراق منزل النائب في البرلمان العراقي صادق اللبان المعروف بأنه من أشرس الوجوه السياسية المتصدية للفساد في مطار النجف.
ويريد اللبان أن يشرف مجلس محافظة النجف المنتخب على إدارة المطار. لكن الشخصيتين النافذتين كانتا تعترضان.
وفشل رئيس الوزراء حيدر العبادي، شخصيا، أكثر من مرة في فرض مدير لإدارة مطار النجف. وحتى الآن هناك أوامر صادرة بتعيين إدارات خاضعة للسلطة المركزية في المطار لكنها لا تنفذ.
ويقول مراقبون إن حالة مطار النجف “تعكس مستوى استهتار بعض المتنفذين المدعومين حزبيا، بالقوانين والقرارات الحكومية بغض النظر عن جهة صدورها”.
ويقول نجفيون إن الشخصيتين المتنفذتين تحتكران فرص العمل في المطار، وتحيلان جميع عقود تجهيزه باحتياجاته إلى شركات تابعة لهما، وقامتا بإنشاء شركة أمنية خاصة، أحالتا لها عقد حماية المطار بالملايين من الدولارات.
ومن وجهة نظر مراقبين، فإن “الشعور السائد في النجف بأن مطارها هو ضيعة حزبية لن ينال الفقراء منها أي خير، دفع الجمهور إلى اقتحامه والعبث ببعض محتوياته وتخريب أجزاء من منشآته وإضرام النيران قرب مدرجه الخاص”.
ويتداول نجفيون معلومات تشير إلى أن مطار النجف، هو مركز رئيسي لتهريب الأموال والسلاح والمخدرات بين العراق وكل من إيران ولبنان وسوريا.
ولم تهدأ النجف بعد إحراق منزل الشخصيتين المتنفذتين، إذ توجه المئات نحو مقار تيار الحكمة بزعامة عمار الحكيم وحزب الدعوة وقاموا بإضرام النار فيها، فيما اشتبك آخرون مع حرس مقرين تابعين لعصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي وكتائب حزب الله.
ونزلت قوة من سرايا السلام التابعة لمقتدى الصدر في محيط منزله بالنجف خشية انفلات الأوضاع.
وأحرق متظاهرون مقرات حزبية في مدينة العمارة أيضا، فيما شهدت بغداد وكربلاء وبابل مظاهرات ليلية، بعضها استمر حتى الفجر من دون احتكاكات.
وفي محاولة لتجنب الصدام مع المحتجين، نفى محافظ النجف لؤي الياسري “ما تناقلته بعض صفحات ومواقع التواصل الاجتماعي عن وجود حالات نهب وسلب في المحافظة التي شهدت مظاهرات الجمعة”، مشيرا إلى “أنها أخبار عارية عن الصحة تماما”.
وكانت حسابات التواصل الاجتماعي نشرت العشرات من الصور للمطار وهو تحت سيطرة المحتجين، وللدور والمقرات الحزبية المحترقة.