المنهج النقدي بين إحسان عباس وإريك أورباخ

الاثنين 29 ديسمبر 2025 7:45 م

ليس النقد الادبي مجرد أدوات اجرائية تسقطها القراءة على النصوص، بل هو رؤية للعالم، وموقف من اللغة، وطريقة في مساءلة التاريخ والانسان معا. ومن هنا تتجلى أهمية المقارنة بين ناقدين ينتميان إلى فضاءين ثقافيين مختلفين، لكنهما يلتقيان عند جوهر واحد، وهو البحث عن معنى الادب في سياقه الانساني الواسع.

إحسان عباس (1920-2003) الناقد الفلسطيني الموسوعي، وإريك أورباخ (1892-1957) العالم اللغوي الالماني الكبير، يمثلان نموذجين متكاملين لفهم النص الادبي عبر التاريخ، بين خصوصية التراث وكونية التجربة الانسانية.

انبثقت تجربة عباس من قلب الثقافة العربية، متكئة على تراث ممتد، ومشحونة بأسئلة النهضة، والهوية، واشكالات القراءة الحديثة للقديم، وقد كان ابن المدرسة التراثية الصارمة في أدواتها، الحديثة في أسئلتها. وجمع بين التحقيق العلمي للنصوص، والوعي النقدي المتجدد. أما أورباخ، فقد تشكلت رؤيته في رحم الفيلولوجيا (فقه اللغة) الاوروبية، حيث النصوص تقرأ بوصفها وثائق ثقافية، تكشف عن تحولات الوعي الانساني عبر العصور.

يختلف المنطلق الحضاري، لكن القلق المعرفي واحد: كيف نفهم الادب، وكيف نقرأ النص في ضوء التاريخ دون ان نختزله في التاريخ. يرى عباس ان النص الادبي كيان لغوي مستقل، لا يفهم إلا عبر لغته وبيئته، لكنه في الوقت نفسه نتاج سياق ثقافي واجتماعي، لذلك كان حريصا على التوازن بين التحليل الداخلي للنص والوعي الخارجي بظروف انتاجه. ولم يكن التاريخ عنده سلطة قاهرة على النص، بل افقا يضيء دلالاته.

منح أورباخ التاريخ مكانة مركزية في فهم الادب، لكنه لم يتعامل معه كخلفية جامدة، بل كقوة ديناميكية تتجسد في الاسلوب، وطرائق تمثيل الواقع. واللغة عنده ليست أداة محايدة، بل هي سجل لتحولات الرؤية الانسانية. ومن هنا جاءت تحليلاته العميقة للفروق بين النصوص.

تميز منهج عباس بصرامة علمية واضحة، خاصة في مجال التحقيق والنقد التاريخي، لكنه لم يقع في جمود المدرسة التقليدية. كان منفتحا على المناهج الحديثة، دون ان يستسلم لها بشكل أعمى. تعامل معها بوصفها أدوات قابلة للتطويع، لا قوالب جاهزة تفرض على النص فرضا.

اتسم منهج أورباخ بشمولية انسانية لافتة. لم يلتزم بمنهج واحد صارم، بل بنظرة تركيبية تجمع بين التحليل اللغوي والرؤية التاريخية والحس الجمالي. كان يقرأ النصوص بوصفها تمثيلات للواقع لا مرايا تعكسه حرفيا، وهذا يعني ان النصوص أشكال فنية تعيد تشكيل الواقع.

وقف عباس عند مفترق طرق بين التراث والحداثة. لم يعتبر التراث مادة للتقديس، ولا عبئا للتجاوز، بل مجالا للفهم النقدي، لذلك دعا إلى قراءة التراث قراءة تاريخية واعية، تميز بين ما هو حي وما هو منقض. ورأى ان الحداثة الحقيقية لا تبنى على القطيعة، بل على الفهم العميق.

أما أورباخ، فكان التراث الغربي أمامه سلسلة متصلة من التحولات، لا انقطاعات حادة فيها. الحداثة عنده نتيجة تراكم تاريخي، يظهر في تطور الاساليب والموضوعات، لا في اعلان القطيعة مع الماضي. ومن هنا جاءت نظرته المتصالحة مع التاريخ التي ترى في الادب مسارا انسانيا طويلا.

يلتقي الناقدان عند نقطة جوهرية: مركزية الانسان. عباس، رغم اشتغاله الدقيق بالنصوص، لم يغفل البعد الانساني للادب، ورأى ان القيمة الحقيقية للنص تكمن في قدرته على التعبير عن تجربة انسانية صادقة. وأورباخ جعل من الانسان محور مشروعه النقدي كله، فالادب عنده سجل لتحولات الوعي الانساني، وتمثيل لمعاناة البشر وأحلامهم عبر الزمن.

قد يبدو المنهج النقدي بين عباس وأورباخ مختلفا في أدواته ومساراته، لكنه يلتقي في غايته الكبرى، فهم الادب بوصفه فعلا انسانيا مركبا يتجاوز حدود اللغة والزمن. وكلاهما قدم درسا بالغ الاهمية، لا نقد بلا معرفة عميقة بالنص، ولا قراءة حقيقية دون وعي بالتاريخ، ولا قيمة للادب إذا انفصل عن الانسان.

والمقارنة بينهما ليست ترفا فكريا، بل ضرورة لفهم كيف يمكن للنقد ان يكون جسرا بين الثقافات، وحوارا بين التراث والحداثة، وصوتا للعقل وهو يفتش بلا كلل عن معنى الجمال والحقيقة في الكلمات.

يمثل عباس وأورباخ نموذجين متمايزين في النقد الادبي، يجمعهما العمق المنهجي، ويفرق بينهما السياق الثقافي وأدوات التحليل. اعتمد عباس منهجا تاريخيا تحقيقيا يقوم على ضبط النص وتوثيقه، وربطه بسياقه الثقافي والحضاري العربي، مع عناية صارمة بالمخطوطات، وتطور الاجناس الادبية، وهو ما يتجلى في أعماله حول الشعر العربي والنقد التراثي. أما أورباخ فأسس منهجا أسلوبيا تمثيليا مقارنا، يدرس طرائق تمثيل الواقع في الادب الغربي عبر تحليل دقيق للاسلوب واللغة داخل نصوص مفصلية، مع ميل أقل إلى التحقيق النصي، وأكثر إلى القراءة التأويلية العابرة للعصور.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر