الخريطة السياسية في الجزائر الجديدة

الأربعاء 19 نوفمبر 2025 7:00 ص

المتتبعون للتحول ونهضة البلاد في عهدها الجديد، يرون ويسمعون ويشاهدون، هذا التغيير على كل الأصعدة بنسب متفاوتة ومرضية، إلا أن جانب النشاط المتمثل في ترتيب الأجندة المتعلقة بتحيين الرؤى الخاصة بمشروع المجتمع من طرف الجمعيات أو الأحزاب السياسية لا يزال ضعيفاً، رغم ما بادرت به السلطة.

هذه ملاحظة، من مقارنة نشاط هؤلاء بصفة عامة، ومن متابعة برنامج الطاقم الحكومي وتوعية الفرد التي ما زالت لا تلبي ولا تساند الجانب التنموي للبلاد، وبقيت محصورة ولم تخرج من بوتقة الانتخابات إلا في أثناء مرحلة الاستحقاقات، وبدون برامج ورؤية يتطلع لها المواطن أو المنخرط في توعيته وتحسيسه، وما هو عائد بالفائدة في القضايا العامة للبلاد داخلياً وخارجياً، كأن هؤلاء في سبات حسب تقديري إلا في بعض الأحداث والمناسبات القليلة، بعيداً عما يحدث من محطات إيجابية أو سلبية أو بإعطاء موقف فيها، سواء كانت خاصة بالداخل أو الخارج.

هناك من يقول هذا راجع:

لقلة تجربة الممارسة السياسية نظراً لطبيعة نشأة البلاد الفتية.

للإيمان بوضع برامج استقطابية حقيقية بدل من الانتظار بالتهريج من أجل الظفر بالمناصب خلال الحملات الانتخابية.

للتفتح أكثر في حرية الرأي مقارنة بوعي الناخب.

لفرض نمط حسب الواقع الذي عاشته البلاد حتى الآن (العشرية السوداء) مثلاً.

لفتح المجال السياسي تدريجياً تماشياً مع الوعي الأيديولوجي للمواطن والناخب والنخبة السياسية على حد سواء.

اليوم وبعد ثلاثة وستين سنة وبعد الأخذ والرد وأكثر من خمسة رؤساء تعاقبوا على البلاد وأحداث متعاقبة عرفها الوطن، يمكن أن يكون جرد تلقائي للمجتمع في رؤية تستمد من المبادئ الأساسية للمجتمع التي ضحى من أجلها وتحصل على استقلاله، وتكون لا شرقية ولا غربية وتتماشى مع الواقع وما يقتضيه العالم الحالي من مؤشرات وتحولات. كمواطن أرى، أنه يتحتم في هذه المرحلة التي نحن مقبلون فيها على استحقاقات، أن تكون مراجعة من طرف الأحزاب الموجودة والتي تريد دخول هذا المضمار، لتحيين برامجها وأن يكون طرحها متماشياً مع مسيرة الدولة الحديثة ومكانتها بحسب رؤية أيديولوجية مبنية على أسس استقطابية ثابتة مستمدة من جذور واقع المجتمع الجزائري لا غير، حتى يكون ضمان استمرار برنامج متكامل ومتلائم مع الميدان والمجتمع. ربما الحال في هذه الحقبة التي يمر بها التحول العالمي يتطلب إعادة النظر في ترتيب بعض المسائل مع البلدان التي أصبحت تتطلع لفرض مكانتها مع الركب قبل فوات الأوان.

فعهد السياسات المبنية على الظلم والبهتان والتسلط بالتضليل لم يَعْمُر عهدها طويلاً وانكشف أمرها وما عاد الأخذ بها اليوم، وما تشهده الأنظمة الغربية وغيرها من الرؤية اليمينية من انهيار يثبت تصاعد الأغلبية الحقيقية المعاكسة لها. هذا ما كان يتنبأ به المفكر الروسي ألكسندر دوغين في كتاب "العالم متعدد الأقطاب: من الفكرة إلى الواقع"، يرتكز الكتاب على نقد النظام الدولي أحادي القطب الذي تشكل بعد الحرب الباردة، ويبرر هذا المفكر أن إعادة تشكيل النظام الدولي يتطلب أن تقوم حضارات متعددة بدور الفاعل السياسي بدل دولة واحدة مهيمنة.

على هذا الضوء، أصبح في بلادنا، يُفرَض عهد تقديم الخطاب في طرح رؤى شفافة مقبولة ومهضومة على المواطن، لا مفروضة على انشغالاته ومطالبه، وبواقعية لكون هذا الخطاب المُسوَّق قد يلبي طموح المواطنين وثابت بإيمان على المبادئ المسطرة في البرنامج الموافق عليه، لا كما كان في محفظة تتجول حسب المناسبة، ولا تسبح إلا في المياه الغادرة وبرامج مستوردة لها هدفها.

فالبرنامج المقدم على أساس العدل والإنصاف يحطم كل ما ينافسه من برنامج أيديولوجي، وهو بمثابة الصخرة التي لا تهتز وتكسر كل محاولة تخرج على نطاق الواقع والمنطق. ولو كانت هذه المحاولة مدبرة ومدروسة من خارج هذا النطاق، فهي تشبه فن الطريقة التي تسير بها البلاد بشعار "الجزائر الجديدة والمنتصرة". فالنمط الحزبي يهدف لتصنيف المجتمع من خلال رؤية أيديولوجية وأخذها كمبدأ يناضل عليها فئة من المؤمنين بتلك البرامج. وأما ما يسمى بـ "المرشح الحر" فهو الخارج على كل قيد أيديولوجي ويستمد عمله من الواقع الذي يجعله يأخذ من كل برامج الأحزاب تلقائياً وليس مقيداً بها، مما يجره إلى رضى المواطن عامة، وبالتالي إلى تطبيق نظرة شاملة تقارب البرنامج الإلهي المعد للبشرية.

تجربة الجزائر في عهد بن بلة وبومدين لم تخضع لحزب ولا للرؤية الاشتراكية بعينها، بل كانت مرحلة محتومة تخرج على النمط الرأسمالي وتقتصر على المرجعية الثورية من خلال شعلة الاستقلال. فمسألة تسلط الأفكار لجلب المجتمع الغربي هي قديمة كانت بواسطة رؤية الكنيسة كبرنامج مسطر ومقدس ينتهجه المجتمع حتى انهار بإظهار عيوبه وتمرد المواطن من عبودية الكنيسة. جاء عهد الحرية المطلقة والعمل بمبادئ الحرية الفردية كمنهاج جديد (ديكارت وروسو) وتجمعت فئات في رؤية موحدة (شيوعية – رأسمالية – اشتراكية)، فاتضح اليوم أن كل الطرق التي مرت بها المجتمعات باءت بالفشل، ولم تعد واحدة صالحة لكل الأزمنة أو الاختيارات، لأن حقيقتها لا تلبي السير الواقعي للشعوب والمجتمعات إلا فئة معينة وتنفي الأخرى التي تبقى تطالب بتحول الوضع حتى تأتيها الفرصة، ولا طريقة مثالية تلبي رغبة الجميع لأنها مبنية على رؤية فئة معينة فقط. فأصبحت مختلفة القناعات والأهواء (ديمقراطية – وملكية – ووطنية – واجتماعية – وجمهورية -) فانبثق منها أنظمة جعلت دول مختلفة الأنماط في نظام التسيير (ملكي متشدد - ملكي ديمقراطي - برلماني - جمهوري - رئاسي متشدد - رئاسي اجتماعي) كلها أنماط من أجل إرضاء مجتمع ما.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر