تتزايد في الآونة الأخيرة مشاهد الهدم الذاتي لمنازل الفلسطينيين في القدس الشرقية، خاصة في أحياء العيساوية وسلوان، في مشهد يلخص مأساة الإنسان الفلسطيني بين جدران بيته وبين قيود السياسات الإسرائيلية.
المواطن المقدسي يُجبر على أن يكون هو نفسه المنفذ لأمر الهدم الصادر بحقه، تحت تهديد غرامات مالية قد تصل إلى عشرات آلاف الشواكل. وهكذا يتحول المنزل الذي بناه بجهده ومدخراته إلى أنقاض على يديه، لا لأنه خالف القانون عمدًا، بل لأن القانون نفسه صُمم ليقصيه ويحاصره.
تدّعي سلطات الاحتلال أن عمليات الهدم تأتي في إطار «تطبيق القانون» و «مكافحة البناء غير المرخص»، غير أن هذه الذرائع القانونية تخفي خلفها سياسة ممنهجة لإضعاف الوجود الفلسطيني في المدينة ودفعه نحو الهامش. فالحصول على ترخيص بناء في القدس الشرقية يكاد يكون مستحيلًا؛ إذ تفرض السلطات الإسرائيلية شروطًا معقدة ورسومًا باهظة، وتؤجل البت في الطلبات لسنوات طويلة. ونتيجة لذلك، يضطر السكان إلى البناء دون تراخيص لتلبية احتياجاتهم السكنية، في ظل الزيادة السكانية وغياب أي تخطيط عمراني عادل.
الهدم الذاتي في جوهره ليس إجراءً إداريًا، بل فعل قسري يضرب عمق الانتماء الإنساني والنفسي للفلسطيني بأرضه وبيته. فإجبار المواطن على هدم بيته بيده يمثل عقوبة مزدوجة؛ خسارة مادية ومعنوية في آن واحد، وشعورًا مريرًا بالمهانة، وكأن عليه أن يوقّع بيده على نفيه من المكان. إنها ممارسة تندرج ضمن ما يمكن تسميته بـ«العقاب النفسي»، الذي يهدف إلى كسر إرادة البقاء وإيصال رسالة مفادها: لا أمان لك في مدينتك، حتى داخل جدران منزلك.
ولا يمكن فصل هذه الممارسات عن سياسات التهويد الأوسع وإعادة هندسة المشهد الجغرافي في القدس.
فأحياء سلوان والعيساوية تشهد النسبة الأعلى من أوامر الهدم، وهما من أكثر المناطق الفلسطينية قربًا من البلدة القديمة، حيث تسعى إسرائيل منذ عقود إلى تعزيز الوجود الاستيطاني اليهودي عبر مشاريع إسكان ومتنزهات توراتية. وبدلًا من تقديم حلول تخطيطية متوازنة أو السماح للفلسطينيين بالبناء القانوني، تُستخدم قوانين «البناء غير المرخص» كأداة لتقليص الوجود الفلسطيني وإفراغ المدينة من سكانها الأصليين.
الهدم الذاتي أصبح خيارًا قسريًا لا مفر منه. فالعائلات التي تتلقى أوامر الهدم تقف أمام معادلة قاسية:
إما أن تدفع مبالغ طائلة في حال تنفيذ الهدم الرسمي بواسطة جرافات الاحتلال، أو تتحمل عبء الهدم بنفسها لتقليل الخسائر. وغالبًا ما تختار الخيار الثاني رغم الألم النفسي الهائل، كما فعلت عائلة في سلوان حين فضّلت تدمير منزلها يدويًا على دفع غرامة قدرها ثمانون ألف شيكل.
ورغم أن هذه الحالات تُروى في الإعلام كوقائع متفرقة، فإنها في الحقيقة جزء من سياسة متكاملة ذات أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية. فهي تُخفف العبء المالي والإداري عن سلطات الاحتلال، وتُجنبها مشاهد المواجهة المباشرة التي تثير الرأي العام، وفي الوقت نفسه تنقل عبء تنفيذ العقوبة إلى الضحية نفسها، لتبدو القضية وكأنها مسألة قانونية داخلية لا علاقة لها بسياسات الإقصاء أو التمييز.
أما على المستوى الإنساني، فآثار هذه الممارسات مدمرة على النسيج الاجتماعي للمجتمع المقدسي.
ففقدان المنزل لا يعني فقط فقدان المأوى، بل ضياع ذاكرة العائلة ومركز حياتها. الأطفال الذين يشهدون هدم منازلهم بأيدي آبائهم يكبرون وهم يحملون شعورًا عميقًا بالاغتراب وانعدام العدالة، مما يترك أثرًا طويل الأمد على استقرار المجتمع وثقته بأي سلطة أو نظام قادر على حمايته.
إن استمرار هذه السياسة يطرح تساؤلات حقيقية أمام المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية:
إلى متى يُترك المقدسيون وحدهم أمام آلة الهدم، سواء كانت جرافة الاحتلال أو أيديهم التي أُجبروا على استخدامها؟ وكيف يمكن لمدينة يُفترض أنها ترمز للسلام أن تتحول إلى مسرح لمعاناة إنسانية ممنهجة؟
في النهاية، الهدم الذاتي ليس مجرد خبر محلي، بل مرآة لسياسة أعمق، حيث تتقاطع أدوات القانون مع أهداف السيطرة، وتتحول الحقوق الأساسية في السكن والكرامة إلى امتيازات مشروطة، في مدينة تُعاد هندستها كل يوم على حساب سكانها الأصليين.