مفتاح النهوض بالاقتصاد الفلسطيني، لا يكمن فقط في ضخ الأموال أو فتح المعابر، بل في ترسيخ بيئة آمنة ومستقرة تُشجع العمل والإنتاج وتعيد الأمل إلى جيل أنهكته الحروب، فحين يستقر الأمن، يصبح الاقتصاد قادراً على التنفس من جديد، ويبدأ الفلسطينيون في بناء واقع مختلف، تتراجع فيه لغة السلاح لتحل محلها لغة التنمية والعمل.
التحولات المتسارعة، التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، عقب التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة، يبرز التساؤل الجوهري حول قدرة هذا الهدوء النسبي على فتح صفحة جديدة في مسار الاقتصاد الفلسطيني، ولا يمكن انتعاش الاقتصاد دون أن يتحقق استقرار أمني مستدام، هذا الاستقرار يبقى رهناً بمعادلة دقيقة تجمع بين السياسة والأمن والتنمية.
لقد عانى الاقتصاد الفلسطيني لعقود من هشاشة ناجمة عن الاضطرابات المتكررة، والإغلاق المفروض على المعابر، وغياب بيئة استثمارية آمنة، بسبب العدوان الإسرائيلي، خاصة الحرب التي دارت في غزة على مدار عامين، استنزفت الاقتصاد الفلسطيني بشكل كبير، فضلا عن الدمار الذي لحق بقطاع غزة، وبعض المدن والقرى في الضفة الغربية.
ومع التوصل لوقف إطلاق النار في غزة، تبدو الفرصة سانحة، لإعادة توجيه الموارد نحو البناء بدلاً من الدمار، شرط أن يرافق ذلك التزام جاد بإجراءات تحفظ الهدوء وتمنع تجدد المواجهات، ومن المؤكد أن استقرار الأوضاع الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة، من شأنه أن يعيد الثقة للمستثمرين المحليين والدوليين، ويفتح الباب أمام مشاريع تنموية كبرى في مجالات البنية التحتية والطاقة والإسكان، وهو ما ينعكس مباشرة على خلق فرص عمل جديدة للشباب الفلسطيني.
لكن المعادلة ليست بهذه البساطة، ويرى محللون أن أي تقدم اقتصادي مشروط بتحجيم أنشطة الفصائل المسلحة، التي تُبقي على حالة التوتر وتدفع إسرائيل إلى فرض قيود متكررة على الحركة والتجارة، من هنا، فإن تطبيق إجراءات أمنية صارمة، لضمان الهدوء قد يُعد خطوة ضرورية لتمهيد الطريق أمام انفتاح اقتصادي تدريجي.
هذا الانفتاح، إذا ما تحقق، سيُتيح عودة عشرات الآلاف من العمال إلى سوق العمل داخل إسرائيل، إلى جانب انتعاش التجارة عبر المعابر، مما سيُسهم في خفض معدلات البطالة التي بلغت مستويات غير مسبوقة خلال الحرب.
وفي المقابل، فإن غياب المقاربة المتوازنة بين الأمن والتنمية قد يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ لا يمكن للاقتصاد أن يزدهر في ظل إجراءات أمنية تُفاقم الاحتقان الشعبي أو تُهمش قطاعات واسعة من المجتمع، استدامة النمو تحتاج إلى بيئة يشعر فيها المواطن بالأمان الاقتصادي والاجتماعي، لا مجرد الهدوء العسكري، لذلك فإن المطلوب ليس فقط تحجيم أنشطة المقاومة المسلحة، بل أيضاً فتح أفق سياسي يضمن للفلسطينيين أفقاً للعيش الكريم والعمل المنتج.
إن التجارب السابقة، تُثبت أن فترات الهدوء النسبي، حين تُدار بحكمة، يمكن أن تتحول إلى فرص للنهوض الاقتصادي، وفي الحالة الفلسطينية، قد يكون وقف إطلاق النار في غزة بداية لمرحلة مختلفة، تُبنى فيها الثقة بين الأطراف وتُستثمر في التنمية والبناء بدلاً من إعادة الإعمار المتكررة بعد كل حرب.
وإذا نجحت السلطة الفلسطينية، بدعم إقليمي ودولي، في فرض الأمن، بشكل يوازن بين مصلحة الدولة والمواطنين على حد سواء، إلى جانب توقف أنشطة المقاومة، التي ينبغي أن تدرك الظرف السياسي القهري، التي تمر به القضية الفلسطينية، فستكون قد وضعت الأساس لاقتصاد أكثر استقراراً وقدرة على خفض معدلات البطالة وتحفيز الإنتاج المحلي.