خلاف صامت ظهرت معالمه مؤخرا
عكست مساعي الأزهر للتحلل من الجمود الفكري الذي هيمن على مواقفه الدينية الفترة الماضية إلى أيّ درجة يحاول تجنب المزيد من الضغوط السياسية وتحسين الصورة الذهنية السلبية التي ترسخت عنه في أذهان السلطة المصرية والتيار المدني.
ويكتشف المتابع لنبرة الخطاب الديني للأزهر من خلال برنامج شيخه أحمد الطيب على فضائية “سي بي سي” في شهر رمضان حجم التغير الدراماتيكي في موقفه تجاه العديد من القضايا المجتمعية التي كانت سببا في صدامه المحتدم مع النظام.
ودعا الطيب إلى الاجتهاد في التراث وتطويره ليواكب متطلبات العصر ويكون الإسلام حيويا، لأن التجديد المتكرر والدائم عبر الاجتهاد الفقهي ضرورة حتمية، رغم أن قضية تجديد الخطاب ظلت محور خلاف الأزهر والرئيس عبدالفتاح السيسي.
◙ ما يضعف التفاؤل بحدوث تغيير جذري بعد مهادنات الإمام أحمد الطيب مع السلطة أن تحركاته وفتاواه تنحصر في قضايا محسومة مسبقا
واعترف الطيب بضرورة وضع حد لمسألة تعدد الزوجات التي باتت ظالمة للنساء، مؤكدا أن رُخصة التعدد التي وردت في القرآن الكريم مشروطة، وطالب بإلغاء بيت الطاعة الذي تسبب في إذلال الزوجات وقهرهن وأباح استمرار الخلع لتحرر المرأة من سجن الزوجية، وهي إشكاليات لم تكن محسومة داخل الأزهر.
ويوحي تحلل شيخ الأزهر نسبيا من الجمود الفكري تجاه بعض القضايا الاجتماعية، بأنه لم يعد قادرا على تحمل الضغوط الرسمية والشعبية الواقعة عليه، وأصبح مضطرا إلى التعاطي بعقلانية ومرونة مع القضايا التي يعتبرها الرئيس ذات أولوية.
ويبدو تخلي الأزهر عن تشدده تجاه موضوعات مفتوحة للنقاش على طاولة الحكومة والبرلمان، مثل الزواج والطلاق وقضايا الأحوال الشخصية، محاولة لظهوره بصورة مغايرة، والإيحاء بأنه قادر على مسايرة العصر، ومستعد للتجاوب معه.
وتشير هذه المواقف إلى أن الأزهر بات عاجزا عن التصدي لحملات النقد والهجوم التي تستهدفه من شرائح مختلفة، تتفق مع توجهات السيسي في تحجيم دور المؤسسات الدينية العقيمة وتقويضه في القضايا الاجتماعية تحديدا.
واستوعب الشيخ الطيب بحنكته وخبرته وذكائه الدروس التي مر بها خلال الفترة الماضية في تعامله مع بعض الأزمات، ويرغب في تجنب الدخول في صدام غير محسوب العواقب مع الحكومة والنظام المصري.
وقال سامح عيد الباحث في شؤون الأزهر وجماعات الإسلام السياسي لـ”العرب” إن المرونة الأزهرية تستهدف تهدئة الأجواء مع النظام الحاكم وبناء قاعدة شعبية جديدة من طبقات لديها فكر معاصر، لكن المعضلة في التعامل مع التجديد من منظور شكلي دون تعمق أو تغيير جذري يقنع الدولة بأن هناك تطويرا يستحق الدعم.
وأظهر موقف السيسي قبل أيام بالإعلان عن قُرب إصدار تشريع يلغي الطلاق الشفهي دون التنسيق مع الأزهر أن الرئيس المصري ضاق ذرعا بجمود الأزهر، ولا يخشى الدخول في صدام علني مع قياداته، بل إنه مستعد لتهميشهم في كل القضايا التي لها أبعاد دينية، طالما أن الأزهر يسير عكس الاتجاه على مستوى الملفات التي تحظى باهتمام رئاسي.
ويرغب الأزهر في استمالة الفئة المعارضة لتدخّل الفقه في التشريعات الأسرية، بإبداء مرونة تدفع السلطة لإعادة حساباتها مرة أخرى وتسمح باستمرار مشاركة الأزهر في سن القوانين المجتمعية.
وتوحي نبرة التهدئة الأخيرة من جانب الطيب بأن الكثير من أوراق الضغط التي اعتادت المؤسسة الدينية استخدامها لمناكفة السلطة أصبحت محروقة، وكان معظم أعضاء هيئة كبار العلماء يستسهلون التحجج بالأحكام الشرعية لإضفاء حصانة على تحركاتهم المناهضة لرؤية السيسي.
ويصعب فصل استسلام الأزهر للتجديد وإعادة النظر في التراث وإنصاف المرأة بذات الطريقة التي يرغب السيسي في إقرارها عن تنامي شعور دوائر صناعة القرار في مشيخة الأزهر بالشجاعة والصرامة التي أصبحت تتعامل بها السلطة مع القضايا المتلامسة مع الشرع، حيث لا تمانع تمريرها وإعادة النظر فيها من دون انتظار مباركة أزهرية أو خوف من ردة فعل مجتمعية.
وجذبت هيئة كبار العلماء التابعة للأزهر فئات مجتمعية لدعمها معنويا ضد الحكومة من خلال اللعب على وتر تعارض توجهاتها مع صحيح الدين في بعض القضايا، وتحاصرها بأزمة دينية كي تدفعها إلى التراجع، وهي سياسة لم تعد مؤثرة في تحركاتها.
وأضاف الباحث سامح عيد لـ”العرب” أن محاصرة الحكومة بأزمات دينية هي سياسة قديمة لم تعد تجدي نفعا مع الدولة المتماسكة والقوية التي ضعف فيها تيار الإسلام السياسي، وإذا كان الأزهر جادا في التغيير عليه التعمق في الأولويات بدلا من الهوامش، وإنصاف المرأة يفرض التخلص من بعض النصوص الفقهية القديمة.
ويدرك الأزهر أن طبيعة الخلاف مع السيسي محفوفة بالمخاطر، حيث يتمسك الرئيس المصري بأن تكون السلطة المدنية وحدها الجهة التي بيدها اتخاذ القرارات المصيرية، لأن رئيس الدولة مسؤول عن حماية المجتمع بتشريعات عصرية بعيدا عن الخضوع، طوعا أو كرها، لرؤى دينية ضيقة تقدس التراث وتكرس سلفنة المجتمع.
وما يضعف التفاؤل بحدوث تغيير جذري بعد مهادنات الإمام أحمد الطيب مع السلطة أن تحركاته وفتاواه تنحصر في قضايا محسومة مسبقا، لكن العبرة في الإعلان رسميا عن تنقيح التراث من التشدد والتغيير الهيكلي داخل مؤسسات الأزهر وتطهيرها من المتطرفين وإبعاد العلماء الذين يتبنون الفكر السلفي والإخواني.
ولا ينطوي قانون الأزهر على نص يلزم المؤسسة بإبعاد الأساتذة المتشددين فكريا، والأمر متروك لمدى الاستجابة الشخصية للإمام الأكبر ومجموعة القيادات التي تلتف حوله وتشاركه صناعة القرار، وهي نقطة أساسية في الخلاف مع السلطة، فمعظم القرارات الدينية المعارضة للحكومة مصدرها علماء أزهريون بخلفيات متطرفة.
وتأكدت الحكومة من عدم سير الأزهر على نفس خط التحديات التي تواجهها الدولة، بعدما انشغل بصناعة ما يشبه “الدولة الموازية” وتخلّى عن دوره الرئيسي الفقهي لصالح التركيز على مضاعفة النفوذ وحصد المكاسب المعنوية، ما كرّس الفكر المنغلق ودفع السلطة نحو المضي في طريقها مهما بلغ الصدام مع المتدينين.
ومن غير المتوقع أن تندفع الحكومة إلى تليين مواقفها مع الأزهر وشيوخه بعد مواقفه الإيجابية الأخيرة، لأنها أصبحت تدرك أن المزيد من الضغوط السياسية تدفعه إلى التراجع بشكل أكبر ليتجنب المزيد من قصقصة الأجنحة وزوال النفوذ والاستقلالية.