قضيت سنوات كثيرة من عمري ـ ولا أزال ـ أُتابع الشأن السياسي العربي، وذلك منذ أن تخليت طوعاً عن الفن والثقافة، وانتهيت إلى قناعة مفادها: أن السياسة العربية في مجملها ثابتة مهما حدث في العالم من تطورات، حيث تصدر القرارات بتناقضها وتعارضها، من مصدر واحد، كاشفة عن علاقة عابرة للأزمة، مكررة للأخطاء ذاتها في الحرب والسلم، وفي سنوات الإرهاب، وعند قيام سياسة الأحلاف، وأثناء تغير المواقع، وحتى عند تغير بعض الحكام بانقلاب أو بمرض أو بالموت كما عايشناه في بعض التجارب، أو حين يأتي الغيث منهمراً ـ أو هكذا نظن ـ عبر الفعل الجماهيري غير الواعي حيناً والمتعدد القيادات والمطالب، كما مرّ بنا خلال السنوات العشر الماضية.
والاستثناءات القليلة هنا وهناك، تحفظ ولا يقاس عليها، إلا أنها باعثة لأمل طال انتظاره، وهناك معطيات كثيرة تشي بدخولنا مرحلة تحققه، حيث الخروج من ليل الأحلام إلى نهار الحقائق الجلية، بغض النظر عن المساحة المتاحة، منها: أن السياسة لم تعد أولوية بالنسبة للشعوب، وأن العيش المشترك أصبح يشمل جميع طبقات المجتمع، حيث اختفى التميز بين الناس في ملكيَّة الأشياء، خاصة تلك المتعلقة بالرفاهية والمتعة، وحل بدل منه أسبقية زمنية لاكتساب الجديد لفترة محدودة، ناهيك عن ظهور أنواع جديدة من السلطة، منها على وجه الخصوص سلطة وسائل التواصل الاجتماعي، وهي لاشك مرعبة، وذات طابع إرهابي تصعب مواجهته، إذ لم يعد في مقدور أحد أن يتحكم في مصيره سواء أكان فرداً أو جماعة أو شعباً أو حتى قوى عظمى.
وانطلاقاً من قاعدة «أي شيء يزيد عن حده ينقلب إلى ضده» حتى لو كان ذلك في مجال فعل الخير أو تحقيق مزيد من الحريات، فإن السلطة الجديدة المتاحة لأغلب البشر اليوم ـ وأعناقهم مشرئبة للصورة والصوت ـ دون حسبان الاختلاف في اللغة والأديان ستنتهي بنا إلى فوضى عارمة نحسبها حياة جديدة، وهي بالفعل كذلك، غير أنها فاقدة للخصوصية، وعامة في معلوماتها ومكررة في أفعالها.
وإذا ما تعمقنا في الحديث عن حياتنا الجديدة فسنجدها فاقدة للخصوصية، حيث إن النسبة من المعلومات عنَّا، نحن المسؤولون عن إعطائها إما بقصد من خلال ما ننشره على مواقع التواصل الاجتماعي، أو بشكل غير مباشر عبر مكالماتنا الهاتفية، التي نُسْمِع تفاصيل أحاديثها لكل من حولنا، وحين نعطي سرنا للجميع نصبح تابعين لهم، والمثل يقول: «من أعطيته سرك صرت عبداً له»، هذه بالنسبة للفرد.. لكن ماذا لو كان سرّاً من أسرار الدولة؟!