الحراك الإيراني !

الخميس 30 يناير 2020 2:54 م

خلال فترة قصيرة جرت في طهران ومدن إيرانية أخرى مظاهرات كثيفة مثل تلك «المليونية» التي جرى الحديث عنها خلال فترات ما سمي «الربيع العربي». حدث ذلك مرتين: مرة حزناً على اغتيال قاسم سليماني رئيس خلايا القدس بالحرس الثوري الإيراني، والمشرف على التوابع الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وغزة؛ والمرة الثانية كانت سخطاً على سقوط الطائرة الأوكرانية وعلى متنها 176 مسافراً أغلبهم من الإيرانيين. زمنياً لم يكن الفارق ما بين الأولى والثانية إلا أيام، ورغم ذلك كان الفارق في مضمونها كبيراً، ففي الأولى كانت الجماهير تشارك السلطة الإيرانية في عزاء «شهيد»، أما في الثانية فقد كانت رفضاً للنظام الذي ساد إيران منذ الثورة عام 1979. كانت السلطات الإيرانية قد نفت لعدة أيام أن يكون الجيش الإيراني أو الحرس الثوري مسؤولاً عن الكارثة الجوية، ولكن المتظاهرين وجهوا غضبهم إلى شخصيات السلطة، وورد أنهم يهتفون: «سليماني قاتل»، و«الزعيم خائن»، و«الموت للديكتاتور» في إشارة إلى المرشد الأعلى علي خامنئي. وهكذا تعارضت الاحتجاجات المناهضة للحكومة بشكل حاد مع المزاج الوطني بعد اغتيال القائد العسكري، وعلى عكس الاحتجاجات التي بدأت بسبب ارتفاع أسعار الوقود في الخريف الماضي، فإن الموجة الأخيرة من المظاهرات ضمت العديد من الطلاب والإيرانيين من الطبقة المتوسطة. فهل نحن إزاء «حراك» تراكمي جاء من جوف الظروف الاقتصادية، والفساد السياسي، ونتائج العقوبات الأميركية، والاعتصار الثوري للجماهير بعد أربعة عقود من الثورة «الإسلامية»، والشمولية الدينية لنظام ولاية الفقيه؛ أم أننا أمام انقسام «حراكي» للشعب الإيراني ما بين المؤيدين للنظام الذين تحركوا في المليونيات الأولى؛ وهؤلاء الذين تحركوا في المليونيات الثانية؟ والإجابة عن هذا السؤال ربما تكون أكثر تعقيداً مما يبدو عليه الحال الإيراني المعقد تعقيد السجاد الإيراني في عقده المعقدة!
في كتب العلوم السياسية فإن ما جرى في إيران على وجهيه ينتمي إلى ما يسمى بـ«الظاهرة الجماهيرية»؛ بالطبع يمكن تسميتها بالهبَّة أو الانتفاضة أو حتى الثورة أو الاكتفاء بالحراك، ولكن جوهر الموضوع يظل خروج جماهير غفيرة بمئات الآلاف ترفع شعارات بعينها، وتدعو إلى تغيير موقف ما يكون في حالتنا مواجهة الولايات المتحدة التي قامت بالاغتيال؛ أو مواجهة السلطة السياسية التي لم تعد الجماهير تعتقد في مشروعيتها السياسية أو للتعبير عن موقف من حالة سياسية واقتصادية لم يعد ممكناً تحملها. الجماهير هنا تكتسب من قوة العدد قدرة غير منظورة ولكنها محسوسة لدى كل من يهمه الأمر، وهنا يصبح الفرد جزءاً عضوياً من جمع كبير يصعب انكساره، ولديه اعتقاد كبير أن هذه الجماعة الكبيرة لا تجتمع على خطأ، والمقدر لها هو نصر مبين. وهي من ناحية أخرى لا تختلف كثيراً على الظاهرة ذاتها التي جرت في كثير من دول العالم حينما سارت الجماهير في هونغ كونغ وتشيلي وكاتالونيا وفرنسا، وفي المنطقة العربية في العام الماضي في السودان والجزائر ولبنان والعراق، وقبل عشر سنوات في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن، وبقدر أقل في العديد من الدول العربية الأخرى. الحركة في كل هذه الحالات تغذي ذاتها بذاتها، تجدد طاقاتها من انضمام المزيد من الجماهير، أو قدرة تنظيم سياسي أو جماعة على تشكيل وعي الجماهير في اتجاه تحقيق صورة مختلفة للمجتمع والدولة.
من حيث الشكل فإن الحراك الإيراني الأول كان أهم سماته السواد الذي هو لون شيعي متميز من الأصل، وفي لحظة حزن عميقة، فإن الرجال والنساء شكلوا موجات من السواد بلغ بهم الحزن مبلغه إلى درجة من التدافع أدت إلى مقتل 57 إيرانياً، غير عشرات من الجرحى. الحركة كلها من شعارات إلى أصوات وهتاف وصراخ ودموع فيه الكثير من الألم الذي ربما لا يأتي حزناً على سليماني، إنما حزناً على طابور كبير من الضحايا الذين ضاعوا في الثورة، وفي الحرب الإيرانية العراقية وما تلاها من حروب ذهب إليها الشباب في العراق أيضاً وسوريا واليمن وأماكن أخرى بعيدة. في الحراك الإيراني الثاني كانت الصورة المعتادة في حراكات شرق أوسطية أخرى لشباب الطبقة الوسطى، ومع السواد كانت هناك ألوان للشعر والثياب، وأطلت خصل من شعور منسابة لفتيات من تحت غطاء الرأس غير المحكم في هذا الحال. وعلى خلاف التزمت البادي في الحراك الأول فإن هناك حالة من الأريحية والبسمة والأمل داخل الحراك الثاني ربما بطبيعة فارق السن، وربما لأنَّ الاعتقاد بات سائداً أنه آن أوان التغيير. هل تغير الإيرانيون خلال أيام، أم أن ما حدث مع الطائرة من أكاذيب حلق تحولاً في ذات الرأي العام؟
معرفة ذلك سوف تحتاج قدراً من الزمن، فتداعيات الأزمة الإيرانية الأميركية لا تزال في بدايتها، وكما هو الحال في كل الأزمات التي تصل إلى حافة الهاوية والحرب، فإنها تترك تفاعلات داخل كل طرف شارك فيها.
الولايات المتحدة سوف تعبر عن تفاعلاتها من خلال صناديق الانتخاب من الآن وحتى نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل؛ وبالفعل فإن تفاعلات أميركا في منطقة الخليج قبل اغتيال سليماني وبعده باتت مؤثرة على عملية محاكمة الرئيس ترمب في مجلس الشيوخ، بقدر ما هي مؤثرة على انتخابات الحزب الديمقراطي التمهيدية والتي سوف تبدأ أولى مراحلها مع انتخابات ولاية «أيوا». خلال أيام. العراق اتجه نحو طلب خروج القوات الأميركية ثم سحب الطلب عندما طرحت واشنطن أثماناً غير معقولة؛ ولكن آثار الأزمة لا تزال معلقة، خاصة وهي مركبة مع الحراك العراقي، واختيار وزارة جديدة، وإعادة تركيب العلاقات بين بغداد وطهران حيث الأولى تعاني من ثمن التحالف، والثانية تخشى من أن يكون اغتيال سليماني والمهندس العراقي ليس تعبيراً عن وحدة، وإنما لأنَّه آن أوان الفراق بعد أن أصبحت العراق ساحة التصعيد الجاري والمحتمل. أما إيران فإن التفاعلات خرجت على صورتين: الموت لأميركا والموت لإسرائيل في ناحية؛ ويسقط المرشد العام في ناحية أخرى!؛ ولكن النتيجة لم تكن هتافات فقط، وإنما رد فعل تمثل في ضربات لا تقتل أحداً، وتصعيداً في تخصيب اليورانيوم تقوم به طهران لكي تعود الأزمة «النووية» إلى مكانها في صدارة الصورة. رد الفعل الأوروبي على ذلك أخذ صورتين: صورة من دول الاتحاد الأوروبي وهي إما أن يعود الجميع «5+1» إلى مائدة المفاوضات مرة أخرى بحثاً عن اتفاق جديد يطمئن له الجميع؛ وصورة من بريطانيا التي خرجت من الاتحاد الأوروبي وباتت تحت قيادة بوريس جونسون أكثر صراحة من كل ما سبق، ومن ثم فإن المسألة ببساطة هي أن تقبل إيران «بصفقة ترمب». إذا كان كل ذلك يشير إلى حالة سيولة، خاصة إذا ما أضيفت لها مواقف إقليمية ودولية أخرى، فإن ذلك يعكس الواقع بعد أزمة كبيرة لا تزال التناقضات الكبرى فيها ساخنة.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر