لم يكن العراق على مر تاريخه منطقة عبور سهلة للأمم والقوميات والجيوش والدول، إنما كان ولا يزال وسيبقى حالة مستعصية، وليدة حضارات متراكمة، منذ أن بدأت صلة السماء بالأرض بما «أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت..»، حتى لو خالط أهله أو حل بينهم من اقترب من الوثنية أو الجهالة، أو كان منهم أحفاد قوم أو قبائل ورثت منهج الصعاليك في إدارة الصراع، أو اختاروا في زمن الحرب والسلم عبر سنين القحط دأباً من خلال قيم «تأبَّط شراً».
لهذا علينا وعلى أهله أيضاً ـ بمذاهبهم وأديانهم وقومياتهم المختلفة ـ أن ندرك أن حروب العراق التي لم تضع أوزارها على مدى قارب الآن الأربعة عقود أن ثورة شعبه اليوم هي مزن ممطر يسقي أرضاً ستخضر قريباً، وسنتسابق جميعنا نحو أمان بعد خوف فيه، وشبع بعد جوع عنده، وانتصار لأمة ضاقت عليها الأرض بما رحبت من خلاله.
العراق، لمن يعرف أو لا يعرف، ميزان قوتنا، وبوصلة اتجاهنا، ونور ظلامنا، وصلابة يقيننا في ظل زيف الوعي وطغيان الظن، وتراجع قناعة اليقين أمام اتساع الأراجيف والأباطيل، مع إدراك القابضين على الجمر هنا وهناك أن الحق العراقي سيدمغ باطل من يدفعونه إلى الفتنة، فإذا بباطل الآخرين من عراقيين وعجم وعرب زاهق.
لم يعد الحديث عن العراق اليوم مستنجداً بالتاريخ حين تشكّل الوعي المبكر بمخاطر الشعوبية، ولا هو متأثر باختيارات كبرى لقادته، أولئك الذين عاصرناهم، وتأثرنا بمواقف القومية الصائبة منها والخاطئة، وقبلنا بهم في زمن قوتهم وبطشهم، وتحالفنا مع أعدائهم، وقاتلناهم حين تكالبت علينا الأمم، ومعهم اعتزلنا كل قيم الأخوة والعدالة والكرامة، وأضحينا بعدهم بلا رايات ترفع حتى لو اعتقد بعض منا ـ وهماً ـ أنه انتصر عليهم.
ولأن العراق مدخلنا للنصر أو الهزيمة، سواء تعلق الأمر بالعمل العسكري أو بالفعل الحضاري، فإن حمايته اليوم، والدفاع عن شعبه هو دفاع عن الذات الفردية وعن الأنا القومية، كما أن توقيف الفتنة فيه تجعلنا جميعاً في مأمن من فتن كبرى سنسقط فيها جميعاً، على خلفيات مقدمات ونتائج نعيشها اليوم في معظم بلادنا العربية، ولم يعد مقبولاً أبداً الاستمرار في اللامبالاة بحجة أنه وطن له أهله.. لقد هلَّ زمن تكسير الحواجز، وذلك عمل يبدأ من القلوب السليمة التي تفقه ما يحدث، وهي أيضاً تلك التي تأتي الله سبحانه وتعالى يوم القيامة.