ليست أفضل أيام الحزب الحاكم في تركيا؛ حزب العدالة والتنمية، لكنها بالتأكيد لم تكن مفاجأة أن يصوت في الانتخابات البلدية نحو نصف الناخبين ضد الرئيس رجب طيب إردوغان لصالح المعارضة، في أول تصويت شعبي بعد تعديل الدستور إلى النظام الرئاسي، بل هو حدث مقلق بالنسبة للرئيس وحزبه.
هل هو تقلب طبيعي في مزاج الشارع ورغبة في التجديد؟ أم خوف الأتراك من مزيد من التردي في الوضع الاقتصادي؟ أو بسبب تفشي الفساد؟ أم سوء إدارة إردوغان لعلاقاته الإقليمية والدولية وانعكاسها على الداخل؟ أم أنها أزمة مطعمة بكل هذه الأسباب؟
الانتخابات البلدية محلية، يفترض أن تأثيرها على الاستقرار السياسي محدود، لكن في الحالة التركية تعكس الانتخابات موقف الشارع من إردوغان منذ تفرده بالسلطة قبل أن تتدحرج العملة التركية نزولاً ككرة ثلج في العام الماضي. إردوغان مرتاح كونه لن يواجه استحقاقات انتخابية قبل أربعة أعوام من الآن، لكنه خلال هذه الأعوام، سيحكم وهو مقبول من نصف الشارع فقط (نحو 52 في المائة من أصوات الناخبين). حالة لم تحصل منذ انطلق نشاطه السياسي كرئيس لبلدية إسطنبول قبل 20 عاماً، وهي المدينة التي لم يتقرر مصيرها بشكل جازم حتى كتابة هذه السطور، رغم أن تأخر الحسم بحد ذاته في مدينة تمثل رمزياً قيمة معنوية لحزب العدالة والتنمية هو أمر جدير بالمراقبة والتحليل.
الأسباب المذكورة أعلاه مهمة وأحدثت فرقاً بلا شك. لكن علينا ألا نغفل جانباً مهماً فقده الرئيس إردوغان منذ تدهور علاقاته الإقليمية العربية بعد ثورات 2011، وتعزز في 2016 بعد محاولة الانقلاب، ألا وهو الجانب الشخصي؛ كاريزما الرئيس المعروف بأنه رجل الميكروفون والخطابات الشعبوية. نتذكر أن حزبه الإسلامي كان نموذجاً للحزب المعتدل الذي يعكس صورة الدولة العلمانية في جلباب، حتى إن أطيافاً مختلفة من المفكرين والمثقفين كانوا يبدون إعجابهم بهذه الشخصية الفريدة التي استطاعت أن تصل إلى الخلطة السحرية في إدارة الحكم الرشيد. نال احترام الكثيرين حتى في أوروبا التي كانت تناقش انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وبلغ مبلغاً عالياً في نفوس كثير من العرب، كان يملك كاريزما يتعطش لها الشارع. في رأيي أن أهم أسباب فقد ثقة الناخب التركي بإردوغان أن هذه الكاريزما والجاذبية الشديدة تلاشت مع الضغوط الاقتصادية والمواقف الدولية ضد تركيا وارتفاع الوعي الشعبي لدى المنطقة العربية كما هو الوعي الذي ارتفع بين الأتراك، خاصة بعد التحول الخطير في خطابه بعد محاولة الانقلاب، وتبنيه لغة عدائية ضد خصومه ومنافسيه، لدرجة اتهامهم بالإرهاب أو أنهم أعداء للإسلام. اتسمت صورة إردوغان بالرجل التنموي الذي بنى اقتصاد تركيا بنية تحتية وفوقية، وجعلها من أقوى اقتصاديات المنطقة. هذه الصورة الناصعة استمرت لأعوام حتى اتضح أن تسلق السلم أدى إلى تفرد بالسلطة واحتكار القرار الاقتصادي، ووصل به التغيير إلى أن وقف أمام جمهور احتشد من أجله ليسخر من مطالبهم بتوفير الغذاء، وأن عليهم أن يعوا أنه سياسي غير تقليدي، فهو يحارب الإرهاب ويدفع قيمة الرصاص وملابس الجنود ومن العبث المطالبة بأمور بسيطة كتوفير الطماطم والبصل والباذنجان من شخص مثله يخوض تحديات في الخارج. باختصار، انطفأت الشخصية الوهاجة. ربما هو تقادم الزمن ودورته التي تتطلب تجديد الدماء وتغيير الأوجه والأفكار، لكن في الواقع أن إردوغان خسر كثيراً من شعبيته بسبب تقلبات مواقفه من قضايا خارجية كالعلاقة مع إسرائيل، والاتهامات بتمرير عناصر تنظيم داعش، وشراء النفط منهم بسعر زهيد، والتدخل في المنطقة العربية خاصة في مصر، والتسبب في تشظي الصف الخليجي بمحاولته الهيمنة على بيت الحكم القطري، وحملات دعائية فاشلة كما حصل في تدخله في تحقيقات حادث نيوزيلندا الإرهابي الأخير. والأهم بالنسبة للناخب المحلي هو حالة الركود الاقتصادي، وانهيار العملة، وارتفاع سعر الوقود أكثر من مرة خلال شهر واحد، وارتفاع أسعار المواد الغذائية، حتى إنه نصب خياماً مؤقتة لبيع الخضراوات بالحبة بسعر مدعوم من الدولة قبل الانتخابات، مع خشية الطوابير أن تزال هذه الخيم بعد فرز نتائج الانتخابات.
رجل الوعود لم تعد تكفي وعوده. نسبة البطالة العالية، والتضخم، وتدهور العملة، أمور تمس الحياة اليومية للمواطن. الوعود وشعارات المنصات لا تسمن من جوع ولا تروي ظمآن. المواطن التركي شعر أن تداعيات محاولة الانقلاب أغلقت الأبواب في وجوه من يريد أن يشتكي الفقر والبطالة، لأن كل من يشتكي ويخرج في مظاهرة هو ضد النظام الحاكم والرئيس المتحكم، أي تلقائياً ضد الأمن ومرشح لتهمة الإرهاب وبالتالي الاعتقال. أضف إلى ذلك أن عشرات الآلاف من المعتقلين والمفصولين من أعمالهم بعيد محاولة الانقلاب لديهم أسر ومجتمع يتأثر بما آلوا إليه من تضييق وإخفاء.
لا شك أن الناخبين الأتراك استخدموا الطريقة السلمية ليعبروا عن امتعاضهم من أوضاعهم المعيشية وسمعة بلدهم الإقليمية والدولية التي ساءت بسبب فشل السياسة الخارجية، مع المخاوف والشكوك بأن إردوغان لن يعفو عمن وقف ضده في هذه الانتخابات، مع ذلك تظل فرص إردوغان وحزبه عالية إن أحسن تنظيم صفوفه وإعادة حساباته كما قال، وقد يفلح إن صدق.