من يتذكر اسم حائز جائزة نوبل في الكيمياء العام الماضي؟ لا أحد تقريباً، سوى المجتمع الأكاديمي الذي يعد من أضيق مساحات المجتمعات المهنية. الفائز حصل على 800 ألف دولار، مبلغ رمزي لا يرقى إلى أن يكون الهدف، ولا يكافئ عقوداً من العمل المضني، لكن تظل القيمة الحقيقية لنوبل كونها أسمى إقرار بمساهمة العالم في حقل علمي معين يخدم الإنسانية... هي تقدير معنوي كبير لا علاقة له بالشهرة ولا المال. وهناك آلاف من الباحثين حول العالم لا يسمع بهم أحد، رغم مساهمتهم العلمية النوعية، واجتهادهم، وتسخير جل وقتهم وسنوات عمرهم في البحث والدراسة.
الموضوع جدلي قديم، قبل حتى ظهور شركات العلاقات العامة التي تبرز أسماء لم تقدم للمجتمع فائدة تذكر بحسب معاييره.
من يستحق أن يكون ثرياً، شهيراً؟ من كد وتعب وحصل على شهادة مرموقة، أم صاحب المهارة الفردية كالرياضيين والفنانين، أو الصفات الشخصية كالجمال والرشاقة، وغيرها...؟
المشاهير الذين يغزون منصات التواصل الاجتماعي بمحتوى ضعيف أو ضحل، ينظر متابعوهم إليهم كأداة للترفيه والاستمتاع، وربما تأثروا بهم إن كانوا من فئة عمرية صغيرة يثير إعجابها الأمور الشكلية ومتابعة يوميات الأثرياء وعارضات الأزياء. والجانب الآخر، أن الناس بطبيعتهم يبحثون في وسائل التواصل عن التسلية والترويح عن النفس، بعيداً عن تعب الالتزامات والعمل والمسؤوليات الأسرية. الترفيه أيضاً بضاعة لمن يبحث عنها.
عدد من المثقفين والأطباء والأكاديميين حانقون على واقع أن الشهرة والمال يذهبان لأصحاب المحتوى المعرفي الضعيف أو حتى الهابط على منصات التواصل الاجتماعي، في حين أن ما عانوه من كد وتعب وسهر وإجهاد جسدي ونفسي للحصول على تعليم نوعي أو شهادة عليا لم يمنحهم هذه الامتيازات. الصورة العامة تقول إن لاعب كرة قدم مثل نيمار، تحصل عليه نادي باريس سان جيرمان بعقد قيمته 222 مليون يورو، مبلغ يكفي ميزانية التعليم في دول القرن الأفريقي، ويدفع له النادي سنوياً 30 مليون يورو. بالمقابل فإن أغلى جراحي القلب أو الأعصاب في العالم أجرهم لا يتجاوز 300 ألف دولار في السنة. الراحل أحمد زويل، العالم المصري في الكيمياء نال جائزة نوبل في عام 1999 وفرح به المصريون والعرب، لكنه لم يصل إلى شعبية لاعب كرة قدم مثل محمد صلاح! هذا لا يقلل من قيمة ما قدمه زويل لكن قانون ذائقة الناس هو الذي يحكم. الفارق شاسع، وقس عليها أمثلة كثيرة أخرى لا حصر لها. هذا الفارق لا تتقبله بعض النخب الثقافية والأكاديمية وأصحاب المهن الرفيعة كالطب والهندسة، إذ إنهم يرون أن في هذا خللاً اجتماعياً معيباً، وقصوراً في تقدير الأفضل، وغياباً للعدالة.
في رأيي الشخصي، أن في ذلك مبالغة كبيرة وغضباً لا جدوى منه. ببساطة لو خيرنا أستاذ الجامعة أو الطبيب أو الباحث بين أن يظل محتفظاً بوضعه الحالي أو أن يختار المال والشهرة بتغيير مهنته واللحاق بركب المشاهير الذين ينتقد عملهم فلا شك أنه سيختار أن يبقى على حاله، لكن حتى يشعروا بالارتياح، على الغاضبين أن يتصالحوا مع الواقع ومع ذواتهم، ويقدروا أن لكل عمل امتيازاته. الطبيب اختار مهنة أحبها منذ كان شاباً صغيراً، لأنه كان شغوفاً بها، ويجد نفسه فيها، وتعود عليه ممارسة المهنة بشعور من الراحة والاعتزاز لأنه يخدم المجتمع، ولو كانت ميوله مختلفة قطعاً ما تكبد عناء دراسة الطب بكل متطلباته الثقيلة. أستاذ الجامعة آثر أن يقضي أجمل سنوات عمره في البحث والدراسة حتى حقق طموحه بالحصول على درجة عليا كافأ بها نفسه، لكن اسمه ظل مغموراً لأنه اختار ألا يتجاوز عتبة الجامعة. كان الدافع المعنوي هو المحرك لكل هذا الجهد والعناء وليس الحصول على المال أو الشهرة الجالبة للمال، لأن هذه المهن لا تثري أصحابها بالمادة، لكن أيضاً بالمقابل منحته امتيازات يتمناها غيرهم، مثل الشعور بالتأثير على حياة الآخرين وأفكارهم إيجاباً، والتوجيه والإرشاد وصناعة المستقبل، إضافة للمكانة الاجتماعية والصيت الحسن في محيطهم. أعرف أسماء وطنية عظيمة تتمتع بالذكاء ولها قصص نجاح عظيمة، لكنها لا تُروى لأن مجال عملهم يعتمد السرية، في حين أن المشتغلين في الإعلام والرياضة والفنون يبرزون لأن طبيعة عملهم متصلة بالجمهور.
الحياة خيارات، وكلٌ مسؤول عن اختياره، يدرك مزاياه وعيوبه، ومحاولة الأكل من كل إناء قد تنبئ عن خصال سيئة كالطمع أو الحسد. علينا أن نؤمن بأن لكل مهنة كيالاً، ونقبل بالثمن.