الزمن في السياسة، والعالمية خاصة، لا يلعب دور اللحظة الفارقة لها ما قبل ولها ما بعد، الحالة ليس كما يحدث في الاقتصاد، حيث الموازنة لها عام مالي يجري «الجرد» أو «المسح» عند نهايته، وبعدها يكون الإنفاق وجمع الإيرادات في جداول زمنية معروفة فيما يأتي من عام.
في السياسة ربما تكون مواعيد الانتخابات والتصويت تمثل لحظات زمنية ذات شأن، لكن ما عدا ذلك فإن العام الجديد هو من ناحية استمرار للقديم، لا يفصله عنه سوى الاحتفال بمولد عام جديد لا يبقى منه إلا بعض من ذكرى في العقل، وربما صداع في الرأس. لذلك؛ فإن ما نراقبه أولاً هو إلى أي حد سوف يستكمل العام الجديد الملفات المفتوحة من العام القديم.
فيما يخصنا، هناك مجموعة من الملفات السياسية والدبلوماسية التي تخص أزمات المنطقة في سوريا، واليمن، وليبيا، المرجح أنها سوف تستمر، التقدم فيها ليس مضموناً، لكن المؤكد أيضاً أن عدم النجاح ليس حتمياً. الأطراف كلها تريد أن تحقق على مائدة التفاوض ما لم تحققه في معارك القتال، لكن ذلك سوف تتبعه لحظة الإفاقة على أن استمرار الحال على ما هو عليه ليس في مصلحة أي طرف.
متى تحدث لحظة الإفاقة النهائية، لا أحد يعرف؛ فالزمن لا يقبل فوراً إلا تحسين الأوضاع نسبياً عما كانت عليه منذ سنوات. ما نعرفه أن عصر الموت بعشرات الآلاف وصل إلى نهاية، وهناك عودة بالمئات للاجئين، لكن الانتقال من الموت إلى الحياة، ومن اللجوء إلى العودة ربما يستغرق وقتاً أكثر من عام. وهناك أيضاً ملفات دائمة مثل المصالحة الفلسطينية، وهذه لا بد لها من جولة أو جولتين، ففي الجولات أحياناً متعة الإقامة في فنادق عالية الفخامة، مع وسيط يحاول أن يحقق نجاحاً في الوساطة وعلى كل طرف فلسطيني أن يجعله سعيداً. المعضلة الكبرى في موضوع المصالحة، أنه يغلق الباب على كل محاولة لاستئناف عملية السلام، وقد بذل الفلسطينيون في الضفة الغربية وقطاع غزة كثيراً من الجهد في إدانة «صفقة القرن» قبل أن يعرف أحد محتواها، لكن الرفض الفلسطيني يحدث في كل الأحوال، وعليه درجة غير عادية من التوافق.
الزاوية المهمة فيما تراقبه هذا العام في الشرق الأوسط ليس هو كل الآليات المشار إليها، وإنما ماذا سوف تفعل الولايات المتحدة هذا العام. لاحظ هنا أن زيارة مايك بومبيو وزير الخارجية لدول المنطقة لم تأت برسالة كبيرة مثل التي جاء بها باراك أوباما إلى المنطقة عام 2009 لإعادة التفاهم بين العالم الإسلامي والعالم الغربي على أساس من احترام الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا كانت الرسالة مماثلة لتلك التي مثلت فيها وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس في خطاب في القاهرة، وفي الجامعة الأميركية أيضاً، عن جماعة المحافظين الجدد في ضرورة تغيير نظم الحكم التي بدأت وقتها في العراق، وربما آن أوان تغييرها في دول أخرى دون التدخل الأميركي المباشر. بومبيو ورئيسه ترمب ليس لديه أي من ذلك، ورغم وعود استمرار الاهتمام الاستراتيجي بالشرق الأوسط، فإن الأمر العملي الوحيد هو الإعلان عن انسحاب القوات الأميركية من المنطقة، والدعوة إلى الاعتماد على دول المنطقة ذاتها لكي تقوم بهذه المهمة من خلال تحالف. الشائع في واشنطن أن المشكلة في سوريا ليست مشكلة ترمب، لكنها في الأساس مشكلة سوريا. هنا راقب، وبشدة عملية الانسحاب هذه، ومن بعدها راقب حركة الأطراف الأخرى مثل تركيا وإيران والحكومة السورية على الأرض، وفي اللحظة ذاتها راقب أصداء ذلك على الملفات المفتوحة الأخرى. سوريا إلى حد كبير سوف تحدد مصير اليمن، وليبيا، ولبنان، والعراق، ربما ليس في العام الحالي (2019) وإنما في العام الذي يليه (2020).
مراقبة الحركة الأميركية في الشرق الأوسط تعتمد على حركتها في العالم. وإذا كان العالم قد صار ثلاثي الأقطاب – الولايات المتحدة والصين وروسيا – فإن العلاقات بين الأولى والقطبين الآخرين تمثل المحاور الاستراتيجية الكونية الكبرى لواشنطن. وفي هذه توجد ملفات مفتوحة من العام الماضي مثل الملف التجاري مع الصين، وملف التسلح مع روسيا. هناك ملفات أخرى مرتبطة بالملفات الرئيسية، فالعلاقة مع الصين فيها الملف المفتوح للمفاوضات الأميركية مع كوريا الشمالية، وملف الأمن في بحر الصين الجنوبي، والأهم من ذلك كله مستقبل تايوان. وفي مثل هذه الحالة، فإن المراقبة تأخذ منهاجين: أولهما البحث عن علامات «الصفقة الشاملة» التي تنظر فيها جميع القضايا، والبحث فيها عن حل يتعايش معه الطرفان، وفي يوم ما من أيام 1972 فإن ريتشارد نيكسون اتفق مع ماو تسي تونغ على أن هناك صيناً واحدة من حيث المبدأ، لكن عملياً فربما كان وجود تايوان ليس ضاراً ولا مهدداً. عاشت هذه المعادلة لأكثر من أربعة عقود؛ لكن لا الصين بقيت على حالها ولا تايوان. وثانيها مراقبة ما يحدث في كل هذه الملفات منفصلة، وربما كان الملف التجاري هو الحلقة الرئيسية التي إذا جرى فيها توافق فربما تعطي دفعة لباقي الملفات الأخرى، أو يعتقد الطرفان أنها أقل أهمية إلى الدرجة التي يمكن تركها لأزمان قادمة.
الملف الأميركي – الروسي لا يقل حرجاً، ومعضلته أن في داخله ملفاً داخلياً في الولايات المتحدة تتعلق بالتحقيقات الجارية تحت رعاية وزارة العدل عما إذا كانت روسيا تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016، وعما إذا كان هذا التدخل حدث بعلم وتوافق مع الرئيس دونالد ترمب. وحتى الآن، فإن التدخل الروسي ثابت من التحقيقات، وبأكثر من طريقة، لكن التهمة لم تثبت على الرئيس على الأقل حتى الآن. المؤكد هو أن هذه التحقيقات لا بد أن تصل إلى نهاية، وفي الظن أن عام 2019 لا بد أن يشهد قراراً إما بتوجيه الاتهام، أو بإغلاق التحقيقات التي لا تتحمل استمرارها الحملة الانتخابية القادمة في جولة 2020، وفي هذه الحالة فإن ترمب سوف يكون لديه فرصة كبيرة للفوز بفترة رئاسية أخرى.
الملفات الأخرى في العلاقات مثل سوريا وأوكرانيا فإن واشنطن «ترمب» ليست متحمسة، وإذا تُرك الأمر للرئيس فإن خياله لا يذهب لأكثر من بناء السور بين الولايات المتحدة والمكسيك، وإذا كان ممكناً بناء هذا السور بين أميركا وكل العالم الذي يعتبره ترمب أشبه بالثقوب السوداء، حيث الداخل فيها مفقود، أو أنها لا تخص الولايات المتحدة على أي حال. ما تريده واشنطن الحالية هو الخروج ما أمكن من سوريا والعراق وأفغانستان، والمؤسسات الدولية متعددة الأطراف؛ لكن ليس كل ما يتمناه الرئيس يدركه؛ فهناك قيود من التاريخ والمؤسسات الأميركية والانتخابات القادمة، ولا يستطيع عام 2019 أن يستوعب كل تمنيات ترمب.