الوضع إلى أسوأ
بات تطور الأوضاع في الشمال السوري، المتاخم للحدود التركية، مؤشرا لدخول سوريا في مرحلة جديدة قد تحدد المعالم الأولى لمستقبل هذا البلد. ويكشف السجال الذي دار في الأيام الأخيرة بين دمشق والعواصم الإقليمية والدولية عن تناقض صارخ في الأجندات على النحو الذي يأخذ بعدا دراماتيكيا في الداخل السوري.
وعكس المشهد خلال الساعات الأخيرة فوضى وعبثا ضمن وضع اعتبره مراقبون أنه يترجم لغياب الاتفاق بين القوى المعنية في الشأن السوري، فيما ذهب آخرون إلى القول إنه يتطابق مع خطط تم التواطؤ بشأنها داخل الغرف الدولية المغلقة.
وتلفت مصادر دبلوماسية متابعة للشأن السوري أن الاعتراض التركي على التقدم الذي أحرزته القوات التابعة للنظام السوري في محافظة إدلب نسف كل السيناريوهات التي كانت تتحدث عن اتفاق ضمني بين روسيا وإيران وتركيا، رعاة عملية أستانة، كما أن إعلان الولايات المتحدة عن إنشاء قوية عسكرية كردية على الحدود مع تركيا، نسف من جهة ثانية وجود أيّ تفاهمات بين روسيا والولايات المتحدة حول تقاسم المصالح والنفوذ في سوريا.
اندفاع واشنطن لحسم خياراتها في سوريا لصالح الأكراد يقلب الطاولة على نحو يتطلب ردا جماعيا حازما
وأعلن التحالف الدولي ضد تنظيم الدولة الإسلامية الذي تقوده الولايات المتحدة، الأحد، أنه يعمل مع قوات سوريا الديمقراطية التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية لتشكيل قوة حدودية جديدة قوامها 30 ألف فرد.
وأثار الأمر غضب تركيا التي تعتبر وحدات حماية الشعب الكردية امتدادا لحزب العمال الكردستاني الذي تصنفه تنظيما إرهابيا. وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “لا تتدخلوا بيننا وبين التنظيمات الإرهابية وإلا فلن نكون مسؤولين عن العواقب غير المرغوب فيها”.
وتقول مصادر قريبة من وزارة الخارجية الروسية إن التطورات الميدانية تهدّد كل الإنجازات التي تحققت في أستانة برعاية موسكو وأنقرة وطهران، كما تهدد بالإطاحة بمؤتمر سوتشي الذي تعول عليه موسكو كمدخل روسي للحل السوري.وتضيف أن موسكو تلاحظ تبدلا جذريا في الاستراتيجية التي تعتمدها إدارة الرئيس دونالد ترامب في الميدان السوري بما يتناقض مع تفاهمات سابقة تمنع احتكاك المصالح بين واشنطن وموسكو والعمل وفق تنسيق دؤوب على المستويين العسكري والسياسي.
وأكد رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما فلاديمير شامانوف أن تشكيل الولايات المتحدة “قوة أمنية حدودية” جديدة في سوريا يعارض مصالح روسيا، التي ستتخذ إجراءات الرد المناسب على ذلك.
روسيا والأكراد
احتفظت موسكو بموقف وسطي في ما يتعلق بالعلاقة مع قوات سوريا الديمقراطية وقوات حماية الشعب الكردية على الرغم مما أحدثته هذه الوسطية من استفزاز للشريك التركي داخل عملية أستانة. إلا أن اندفاع واشنطن لحسم خياراتها في سوريا لصالح الأكراد يقلب الطاولة على نحو يتطلب ردا جماعيا حازما.
ويرى خبراء في الشؤون العسكرية أن التحرك العسكري والسياسي الذي تقوم به تركيا في وتلويحها بعمليات عسكرية لافتة في منطقة عفرين يعبر عن اتفاق روسي تركي لتنسيق الجهود للرد على الخيارات الأميركية في الشمال الشرقي السوري.
بالإضافة إلى الحشود العسكرية التركية التي أُعلن أنها تتجه صوب عفرين، كثّفت التقارير التركية من حديثها عن الأخطار التي تتعرض لها تركيا من داخل هذه المنطقة التي يسيطر عليها الأكراد.
وكان أردوغان قد قال الاثنين، إن الولايات المتحدة تحاول تشكيل “جيش ترويع” على الحدود الجنوبية لتركيا بتدريب قوة حدودية سورية تتضمن مقاتلين من الأكراد، وتوعّد بسحق القوة قبل أن تولد، مضيفا أن القوات التركية أكملت استعداداتها لعملية في منطقة عفرين الخاضعة لسيطرة الأكراد بشمال غرب سوريا وبلدة منبج.
فلاديمير شامانوف: تشكيل واشنطن لقوة أمنية حدودية في سوريا يتعارض مع مصالح روسيا
ويعبر اتفاق النظام السوري والنظام التركي، على الرغم من عداوتهما المعلنة، على رفض قرار واشنطن بإقامة القوة الكردية المشار إليها عن اتساق كامل في مواقف روسيا وإيران وتركيا وتقاطع مصالحها في هذه المرحلة لمواجهة هذا الاستحقاق.
وكان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف قد أشار إلى استمرار العمل مع تركيا وإيران بخصوص مؤتمر الحوار الوطني، وأعرب عن أمله في أن ينتهي في أقرب وقت ممكن إنشاء نقاط المراقبة في مناطق خفض التوتر بالتعاون مع تركيا، من أجل الحيلولة دون حدوث استفزازات جديدة، لافتا إلى أنه تم إنشاء 3 نقاط مراقبة ومن المخطط أن يبلغ عددها 20 نقطة.
وهاجمت دمشق بشدة إعلان التحالف الدولي بقيادة واشنطن عن عزمه على تشكيل قوة أمنية حدودية في شرق سوريا. وقال بيان وزارة الخارجية إن “سوريا تعتبر كل مواطن سوري يشارك في هذه الميليشيات برعاية أميركية خائنا للشعب والوطن وستتعامل معه على هذا الأساس″.
وتؤكد متابعة التطورات في المنطقة أن عمليات الكرّ والفرّ التي جرت وستجري في منطقة إدلب تخضع في تفاصيلها للمداولات الحاصلة بين موسكو وأنقرة. وفي هذا السياق تتنزّل مسارعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تبرئة تركيا من عملية مهاجمة 13 طائرة مسيَّرة في قاعدتي حميميم وطرطوس الروسيتين ليل 5 و6 يناير الجاري.
والهدف من هذا الموقف إقفال هذا الملف بعد تعهدات قدمها أردوغان بوقف أي عملية لاحقة، وبعد أن فهم الجانب الروسي حساسية ما أشيع عن احتمال قيام موسكو بدعوة وفد من حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (الجناح السوري لحزب العمال الديمقراطي في تركيا) إلى مفاوضات سوتشي.
مع ذلك فإن مسألة عدم دعوة الأكراد ما زالت غير محسومة من قبل موسكو. فقد أعرب وزير الخارجية لافروف عن أمله في تمثيل شامل لجميع الفصائل من سوريا خلال انعقاد مؤتمر الحوار الوطني السوري المرتقب في مدينة سوتشي الروسية يومي 29 و30 يناير الجاري. وقال لافروف “بالطبع لا بد من حساب الأكراد السوريين ضمن المشاركين… الأكراد يعدون جزءا من الأمة السورية”.
على الرغم من الغموض في مسألة موقف موسكو من دعوة الأكراد، إلا أن روسيا أدركت، كما تركيا، أهمية الحفاظ على التحالف مع إيران في هذه المرحلة وإعادة تنسيق حركة خطوط المعارك في إدلب، خصوصا بعد أن ظهر أن الولايات المتحدة تسعى لاستعادة زمام الأمور في المنطقة.
غير أن مصادر أميركية قريبة من وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أكدت أن ما أعلنته واشنطن بصدد دعم قيام قوة عسكرية على الحدود الشمالية الشرقية السورية لا يحمل جديدا ويتسق تماما مع الاستراتيجية التي اعتمدتها واشنطن منذ سنوات ويتفق مع ما هو معلن من دعم لقوات سوريا الديمقراطية في مواجهة الإرهاب.
قوة ضرورية
ترى واشنطن أن هذه القوة هي ضرورة ميدانية في غياب التسوية والاستقرار في سوريا، وأن وجود قوة عسكرية فاعلة في تلك المنطقة هو حاجة استراتيجية لمنع داعش أو أي جماعة إرهابية أخرى من العودة لاختراق الإنجاز الذي تم بعد سقوط الرقة وبقية المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش في هذه المنطقة.
غير أن لافروف اعتبر أن “تشكيل الولايات المتحدة جيشا في سوريا يضر بوحدة ترابها ويخلق مشاكل في العلاقات بين الأكراد وتركيا، ولن يساعد في التخفيف من وطأة الوضع القائم في عفرين”.
وقال وزير الخارجية الروسي إن “القرار الأميركي بإنشاء قوة حدودية في سوريا يعني أن منطقة كبيرة على حدود سوريا مع تركيا والعراق ستصبح معزولة، وهو أمر يبعث على القلق”.
واشنطن تعتزم إنشاء قوة حدودية في سوريا لمواجهة الإرهاب
بيد أن دبلوماسيين أوروبيين متابعين للشأن السوري يرون أن سياسة الولايات المتحدة في سوريا غير واضحة وليست ثابتة وغير مفهومة حتى من قبل الشركاء الغربيين.
ويرى هؤلاء أن دول المنطقة عموما لم تعد تثق بسياسات البيت الأبيض ومزاجيتها، وأن تلك الدول، ولا سيما المنخرطة في الشأن السوري، ذاهبة لانتهاج خيارات أخرى لحماية مصالحها.
وتخشى الدوائر الأوروبية من انفجار الوضع العسكري من جديد على النحو الذي ترى فيه الدول المنخرطة في الصراع السوري السبيل الوحيد لتعظيم نفوذها في مستقبل سوريا من جهة وعلى أمنها الاستراتيجي أيضا، كما هو حال حوافز الجانب التركي، من جهة أخرى.
ويدعو الأوروبيون إلى إعادة تفعيل سبل التنسيق الدولي من أجل وضع لبنات إدارة الصراع قبل الحديث عن مستقبل التسوية السورية. ويخشى هؤلاء من تحول الحرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والدولية إلى احتكاك مباشر بينها على نحو لا يحمد عقباه.
وعلى الرغم من استعار السجال بين العواصم حول المسألة السورية تحدثت تقارير عن تحرك أميركي سيكشف عن استراتيجية جديدة لواشنطن سيتم نقاشها مع روسيا. وقالت التقارير إن مباحثات أميركية غربية جرت في واشنطن وسيكملها وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الأسبوع المقبل في باريس لوضع اللمسات الأخيرة على خطة سيتم نقاشها لاحقا مع وزير الخارجية الروسي قبل جولة جنيف من المفاوضات في 26 من يناير الجاري. وتتضمن الخطة إصلاحات دستورية وإجراء انتخابات وتفاصيل أخرى وفق قرار الأمم المتحدة 2254.
ومن شأن التواصل السياسي الأميركي الروسي أن يعيد ترتيب الأمور ويخفف من حدة التوتر بين البلدين في الشأن السوري ويوضح لموسكو الأجندة التي يريدها الغرب في سوريا. ويأتي هذا التواصل ليضاف إلى تواصل آخر بين أنقرة وواشنطن تجسد في لقاء رئيس الأركان التركي خلوصي أكار مع نظيره الأميركي جوزيف دونفورد، على هامش اجتماع اللجنة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في بروكسل.
ويكتسي هذا الاجتماع أهمية خاصة يستمدها من الجدل حول موقف واشنطن بشأن القوة العسكرية الكردية التي ترفضها أنقرة، والحديث عن عملية عسكرية تركية في منطقة عفرين.