هل هي لعبة مزدوجة تلعبها إيران كما قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس؛ أي التفاوض في فيينا وتسخين الجبهات عبر أدواتها في الشرق الأوسط؟
الحقيقة أنها لعبة واحدة، يملك فيها «الحرس الثوري» اليد العليا، فيما يتحرك الجانب السياسي في هوامش ضيقة، وتعود نتائج حركته لتُصرف مجدداً لمصلحة «الحرس». هكذا ازداد تغول إيران بعد اتفاق 2015 النووي مع المجتمع الدولي، وتعاظم حضور قاسم سليماني الميداني على طول جبهات المنطقة، وفي أقاليم الدول التي تبجح أكثر من مسؤول إيراني بأنها تخضع لنفوذ «الإمبراطورية الإيرانية».
«الحرس الثوري» هو إيران، وأي حوار أو اتفاق لا يحدث مع «الحرس» فلا قيمة له. وأي حوار أو اتفاق مع «الحرس» غير ممكن ما لم يصب في النهاية في توسعة مشروع «الحرس»! هذه هي المعضلة.
يلعب «الحرس» لعبة طويلة الأمد، هدفها ضرب أكبر عدد من الدول العربية، وإضعاف حكوماتها، واختراق مجتمعاتها، من أجل خلق بيئة ملائمة لتصدير الثورة ونشر المذهب والعقيدة وإعادة كتابة التاريخ من جديد. هذه مجموعة عقائدية صلبة وحقيقية ثابرت للاستحواذ على النظام ونجحت. تقدم المشروع كثيراً في المشرق العربي، والتركيز في المرحلة المقبلة سيكون على الخليج العربي وبشراسة غير مسبوقة. ولا أحد في إيران في هذا الملف سوى «الحرس».
تعاني إيران ما تعانيه دول عربية. هناك أيضاً هيمنت الدويلة على الدولة. دويلة «الحرس» تمددت في اقتصاد «الجمهورية الإسلامية» في إيران. يمتلك «الحرس» إمبراطورية مالية استثمارية هائلة بالتحالف مع المرشد علي خامنئي الذي حموا وصوله إلى عرش إيران في مواجهة اعتراضات جدية من البازار وقم. بمساعدة المرشد يهيمنون على قطاع الاتصالات، ومطارات رئيسية وأرصفة موانئ بحرية، وتجارة استيراد وتصدير ومعابر حدودية، ومشاريع زراعية وصناعية، ويستولدون مؤسسات رديفة في الإعلام والاستخبارات، بحيث باتت لديهم «وزارات رديفة» أقوى من الوزارات الأصلية.
المفارقة أن الرئيس الإيراني الأسبق محمود أحمدي نجاد؛ الذي شكل قوة دفع حقيقية خلف تمكين «الحرس الثوري» اقتصادياً خلال ولايته الأولى، سرعان ما انقلب عليهم وبات هو وفريقه المصدر الأبرز للأخبار عن سلسلة فضائح فساد وهيمنة تطال «الحرس الثوري».
أما حكومة الرئيس السابق حسن روحاني فكانت أخبار اشتباكاتها اليومية مع «الحرس» في ملفي الاقتصاد والسياسة الخارجية هي المادة الأدسم في الصحافة الإيرانية.
وكانت ذروة هذه الاشتباكات تسريبات لوزير الخارجية الإيراني السابق محمد جواد ظريف، قال فيها:
«في الجمهورية الإٍسلامية الميدان العسكري هو الذي يحكم (...) لقد ضحيت بالدبلوماسية من أجل الميدان العسكري؛ بدل أن يخدم الميدان الدبلوماسية. كنت أتفاوض من أجل نجاح ساحة المعركة». والميدان هو «الحرس» أولاً وأخيراً.
في شأن متصل، سبق أن كشف وزير الخارجية الإيراني الأسبق أكبر صالحي في عهد أحمدي نجاد عن أن قاسم سليماني كان يتدخل في تعيين سفراء طهران لدى الدول العربية، موضحاً أن اختيار السفراء لدى بعض الدول كان يجري بالتنسيق معه.
إيران هي «الحرس الثوري».
يروي مارتن إنديك، في كتابه الأخير عن دبلوماسية وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر الشرق أوسطية، تجربة حدثت بين إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون وإيران. يقول إنديك إن وصول محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية الإيرانية في الثلث الأخير من التسعينات، دفع بإدارة كلينتون إلى التفكير في الانفتاح عليه من خلف ظهر المرشد، كما ينبغي للدبلوماسية الأميركة أن تفعل حين يتوفر لها مُحاور معتدل في نظام متشدد. ويضيف: «حمل السيد يوسف بن علوي، وزير خارجية عُمان آنذاك، بطلب من كلينتون وتكليف من الراحل السلطان قابوس، رسالة خاصة وسرية لخاتمي شخصياً. وبالفعل طلب بن علوي لقاءً حصرياً بينه وبين خاتمي لهذا الغرض، لكنه فوجئ باستقباله من نظيره الإيراني كمال خرازي الذي رافقه إلى غرفة الانتظار قبل لقاء الرئيس ومن ثم حضر اللقاء، رغم تشديد بن علوي على ضرورة اللقاء المنفرد». ويتابع إنديك: «علمنا لاحقاً أن خرازي وبناءً على طلب من خاتمي سلم الرسالة لخامنئي». تفيد هذه الحادثة في ملاحظة التصورات الخاطئة عن النظام الإيراني، والذي تزداد «حَرَسِيّته» بشكل فاقع مع وصول إبراهيم رئيسي إلى سدة الحكم في إيران، وإن كانت نقطة تحول تشكل محاولة يائسة لترميم الآثار الفادحة للاغتيال العبقري لقاسم سليماني بأوامر مباشرة من الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب.
في طهران، سمع موفد الإمارات إلى حفل تنصيب رئيسي، الوزير نهيان بن مبارك، كلاماً إيرانياً تصالحياً. زحمة اللقاءات على هامش حفل التنصيب جعلت بروتوكول الرئاسة الإيرانية يحدد فترة اللقاءات برئيسي بعشر دقائق. إلا إن اللقاء بين الوزير الإماراتي ورئيسي استمر أكثر من ساعة وثلث. بعدها بدأت ترتيبات زيارة مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد إلى طهران...
ثم جاءت صواريخ ومسيّرات «الحرس» عبر الأداة الحوثية…
منتصف التسعينات، وصل السعوديون والإيرانيون عبر حوارات بين الراحلين الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد (آنذاك) والرئيس هاشمي رفسنجاني، إلى مستويات غير مسبوقة من التفاهمات الإيجابية، قبل أن تقضي عليها تفجيرات الخُبر التي خطط لها ونفذها «الحرس الثوري»، واستهدفت أبنية سكنية يقطنها أميركيون.
لا تعد محاولات التسوية السياسية مع إيران. ولا تكل جهود البحث عن «معتدلين» و«عقلاء» لترتيب شروط التعايش في الإقليم.
بيد أن إيران هي «الحرس» اليوم؛ أكثر من أي يوم مضى. و«الحرس» هو الثورة وتصديرها.
أما الحوار، والتفاوض، فهما بعض من تقنيات الحرب والعدوان وليسا بديلاً لها.
كل محاولات التسوية مع إيران لم تنتج ما أنتجه قرار واحد اتخذه ترمب ونفذته فتاة تجلس خلف شاشة لا تعلم أين هي إيران على الخريطة، ولا تفهم حرفاً من نظرية ولاية الفقيه.