ملء سد النهضة الإثيوبي، يملأ دنيا السياسة الإقليمية والدولية. تصادم ساخن بين الأطراف الثلاثة التي ينبع منها نهر النيل، التي يعبرها والتي يصب فيها، إثيوبيا والسودان ومصر. لقد طال خيط الحوار المباشر بين الدول الثلاث، وكذلك في أروقة المحافل الإقليمية والدولية. الحكومة الإثيوبية تصر على ملء بحيرة سد النهضة متجاهلة كل المبادرات المصرية تحديداً، والوساطات الإقليمية والدولية، بل إن رئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد، جعل من القضية منصة يشعل من فوقها المشاعر الوطنية في بلاده، واستخدمها في معركته الانتخابية التي حقق فيها أغلبية كاسحة في البرلمان، وفي كل يوم يزداد الصوت الإثيوبي الذي يؤكد على أن لا تراجع عن البرنامج الزمني الذي يحدده للملء الثاني للسد متجاهلاً المقترحات المصرية التي تتشبث بالحوار مساراً يوصل إلى حل يحفظ مصالح كل الأطراف. صار حجم الأضرار التي ستلحق بالسودان ومصر واضحاً ليس للرأي العام الإقليمي، بل للرأي العام السياسي والإعلامي الدولي. أكبر الأخطاء التي تقع فيها الدول هي عدم معرفتها بطبيعة تكوين عقلية الطرف الذي تختلف معه إلى درجة يلوح فيها الجهل بمعرفة قواعد إدارته للمعركة، سياسية كانت أو عسكرية أو حتى فنية. مصر خاضت كل تلك المعارك عبر سنوات طويلة، حققت انتصارات في بعضها، وكذلك انكسارات. تطورات «سد النهضة» بالنسبة لمصر هي حلقة في سلسلة معارك عديدة. لقد خسرت مصر معركتها مع إسرائيل في يونيو (حزيران) سنة 1967 واحتلت سيناء، لكن تلك الواقعة التي حفرت جرحاً غائراً في الضمير صلبت الإرادة الشعبية، وأثرت الرؤية ومنهج التفكير السياسي والعسكري. بعد الهزيمة بشهور قليلة بدأت مصر حرباً من نوع مبتكر هي حرب الاستنزاف. معارك محدودة لكنها متواصلة مع العدو الإسرائيلي الذي يعتمد في تكوينه العسكري على المجندين من المدنيين الذين يعملون في كل القطاعات، وكانت تلك الحرب استنزافاً عسكرياً واقتصادياً واجتماعياً وحتى نفسياً. بعد هزيمة يونيو قال موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي، إن مصر لن تستطيع الدخول في حرب مع إسرائيل قبل عشرين سنة، فقد تم تدمير قدرتها العسكرية، وتداعت إمكاناتها الاقتصادية، واهتزت معنوياتها القتالية، لكن بعد ست سنوات شنت مصر هجوم العبور وألحقت خسائر ضخمة بالجيش الإسرائيلي. راكمت مصر خبرة عسكرية وسياسية يمكن تسميتها منهج «الاستنزاف» الشامل للعدو عسكرياً وسياسياً. قبل الرئيس جمال عبد الناصر مبادرة روجرز المبنية على قرار مجلس الأمن رقم 242، ووافق على وقف إطلاق النار، ووظف ذلك في بناء حائط الصواريخ المضادة للطيران. بعد تولي الرئيس أنور السادات الرئاسة، دخل حرب الاستنزاف السياسي وقدم مبادرة لفتح قناة السويس كخطوة أولى نحو بناء الثقة بين الطرفين والتحرك نحو الحل السلمي، ولكن إسرائيل رفضت المبادرة. لم يتوقف السادات عن الإعلان عن تصميمه على خوض حرب التحرير، وأعلن أن سنة 1971 ستكون عام الحسم، ثم عاد وتعلل بما سماه بالضباب بسبب الحرب الهندية الباكستانية في بنغلاديش، ولم يتوقف عن إرسال الوفود إلى عواصم العالم تحمل أفكاره للسلام. في الوقت ذاته كانت القوات المصرية تقوم بتدريبات ومناورات مكثفة غرب قناة السويس، وتتواصل دفعات الأسلحة الضخمة إلى الجيش المصري من الاتحاد السوفياتي. أوقف الرئيس أنور السادات حرب الاستنزاف العسكري، لكنه أدار معركة سياسية لم تخلُ من المراوغة والمناورات التي تغطي استراتيجيته العسكرية التي يعد لها بدقة، وعلى أسس علمية مع قياداته العسكرية. ارتفعت أصوات داخل مصر وخارجها تكرر استحالة قدرة مصر على عبور قناة السويس. الكاتب المصري محمد حسنين هيكل، نشر مقالاً عرض فيه الصعوبات الجمة التي تواجه القوات المصرية، الروس قدروا خسارة الجيش المصري بعشرات الآلاف من الجنود عند عبور القناة، فالجيش الإسرائيلي بنى دشماً خرسانية على امتداد شرق القناة، وحشد مئات الدبابات، ومد مواسير إلى داخل القناة لتصب فيها «النابالم» إذا عبرتها القوات المصرية. في ضربة فاجأت الجميع بمن فيهم الأميركان، قرر السادات إخراج جميع الخبراء العسكريين السوفيات من مصر، وفهم الإسرائيليون من ذلك أن السادات لن يقاتل أبداً. نجح السادات في جولة طويلة من حرب استنزاف جند فيها الخداع والمراوغة والتضليل، وفي الوقت ذاته يؤهل جيشه لحرب ضارية ضد العدو.
مصر اليوم تخوض حرب استنزاف واسعة مع إثيوبيا في قضية سد النهضة مستوعبة التصعيد الإثيوبي السياسي والإعلامي والتقني. الدروس المتراكمة التي تعلمتها مصر على مدى إدارتها لصراعات مع أطراف أجنبية منذ حرب فلسطين إلى اليوم، أسست لمنهج في إدارة الأزمات وخوض الصراعات استخلصته من صيرورة حروب ومواجهات سياسية وعسكرية. عندما أعلن الرئيس جمال عبد الناصر في المؤتمر الصحافي العالمي الذي عقده يوم 22 مايو (أيار) سنة 1967، أعلن فيه إصراره على غلق مضائق تيران أمام السفن المتجهة إلى إسرائيل وترحيبه بالحرب، أبلغته أكثر من جهة دولية، وفي مقدمتها يوثانت الأمين العام للأمم المتحدة، أن الحرب قادمة لا محالة، وأبلغه الرئيسان اليوغوسلافي تيتو والرئيس الفرنسي شارل ديغول، أن إسرائيل ستشن الحرب يوم 5 يونيو، لكن الترتيبات العسكرية المصرية لم تكن في مستوى الإعداد العسكري الإسرائيلي للمواجهة.
هاجمت إسرائيل، مصر وسوريا والأردن، في اليوم ذلك، وكانت الهزيمة رهيبة. الرئيس السادات ناور سياسياً، وراوغ عسكرياً، وعقد عشرات الاجتماعات مع جنرالاته الكبار ووضع خطته بدقة وبكل التفاصيل. غلق مضائق تيران اعتبرته إسرائيل إعلان حرب، لكن مصر الآن لم تقل إن تعبئة سد النهضة الثاني أو الثالث هو إعلان حرب، لكنها تخوض عملية استنزاف للعناد الإثيوبي بقوة السياسة على المستوى الدولي، ومخاطبة الرأي العام المصري بعقلانية واثقة من دون تعبئة عاطفية. يوم الخميس 15 يوليو (تموز) ألقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، خطاباً في مهرجان «حياة كريمة»، وقال: لا يليق بنا أن نقلق. وأضاف أن المساس بأمن مصر خط أحمر لا يمكن تجاوزه شاء من شاء وأبى من أبى. اليوم هناك الملء بالماء والملء بالنار، قرار إثيوبيا معلن ويجري تنفيذه، وسياسة مصر مشحونة في شفرات ننتظر أن تفككها الأيام لنرى ألوانها ونسمع صوتها.