حظي اجتماع وزراء الخارجية العرب بالدوحة في قطر، من أجل مساندة مصر والسودان في مشكلة «سد النهضة» التي أثارتها إثيوبيا، ومصرة عليها من سنوات، ولو أدى ذلك إلى تصعيد النزاع إلى حالة الحرب! لن تتضرر إثيوبيا أبداً بملء السد بالتدريج، وعلى مراحل أطول. لكنّ حكومتها الجديدة التي دعمها العرب جميعاً قبل 3 سنوات رجاء أن تكون أقلّ عدوانية من سابقتها التغرانية، أظهرت عدوانية أكبر وأشدّ. لقد أنهى السعوديون والإماراتيون النزاع الطويل جداً بين إثيوبيا وأريتريا، واستقبلوا الطرفين اللذين حصلا على جائزة نوبل للسلام! ثم إنّ هؤلاء «الأعدقاء» بلغ من تحالفهم أنهم شنوا حرباً شعواء قتْلية وتهجيرية على الإثنية التيغرانية بداخل إثيوبيا التي كانت قد غادرت السلطة في البلاد بعد 30 عاماً(!) من الحكم الاستبدادي، واضطهاد الإثنيات الأُخرى الكبرى مثل الأمهرا والأورومو. وما انتهت تلك الحرب الإبادية، لكنّ آبي أحمد رئيس وزراء إثيوبيا وبطل السلام بحسب نوبل، عاد إلى سياسات التنمر تجاه جيرانه وزايد فيها لأسبابٍ مختلفة، في طليعتها إلهاء الشعوب الإثيوبية بموضوع وطني كبير يستدعي تحشداً تجاه الخارج!
لماذا هذه التفاصيل؟ لأنّ التنمر على العرب واستضعافهم صار سياسة متبعة لدى كل دول وكيانات الجوار، وبخاصة بعد حدث العام 2001 والحرب العالمية على الإرهاب.
ولأنّ الجميع صاروا مستهدَفين، وليس العرب فقط، بل بعض الدول الإسلامية؛ فإنّ كلاً منهم حاول حفظ نفسِه في علاقاتٍ ثُنائية أو ثُلاثية مع الدوليين والإقليميين. بيد أنّ أحداً ما كاد ينجو. فهناك 4 أو 5 دول عشّشَتْ فيها الميليشيات الموالية لإيران وتركيا أو بحماية الولايات المتحدة وروسيا. والدول التي لم تستطع الميليشيات التوغل فيها ما تزال الجماعات الإرهابية تمارس فيها وعليها العنف بدرجة أو أُخرى.
إنّ ظاهرة التنمر على العرب تتفاقم في هذه السنة بالذات. الظواهر مستمرة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة منذ احتلال أفغانستان والعراق، ودمار اتفاقية أوسلو في عهد بوش الابن. لكنها تبلغ الآن ذروة جديدة للتغير في الرئاسة الأميركية، واعتقاد ميل الإدارة الأميركية للتسويات، وأولها العودة للاتفاق النووي. فلا أحد من المتنمرين يريد تغيير سلوكه بدون ثمن. وفي حين يُظهر الأميركيون والأتراك بعض الهدوء في مناطق التدخل، ويتحدث الأتراك عن تقارُبٍ مع العرب، من دون التنازل بالطبع عن كل دعاويهم في ليبيا وشرق المتوسط وشرق سوريا، وعن حملتهم على حزب العمال الكردستاني في العراق - فإنّ الإيرانيين من خلال الميليشيات التابعة لهم يثيرون القلاقل والصدامات في كل مكان.
وهكذا، فإنها فترة خطيرة على الأمن العربي الاستراتيجي من حيث إنه يراد فيها فرض الأمر الواقع الذي جرى الأمر على حفره لنحو 20 عاماً. ولذلك، التضامن العربي الفعّال ضروري، ليس لاستعادة الدول المضطربة وحسب؛ بل لحماية أمن الدول التي يجري التحرش بها منذ سنوات أيضاً.
اتخذ الوزراء المجتمعون في الدوحة قراراً بدعم مطلبي مصر والسودان بالتوجه إلى مجلس الأمن، ليس شكوى فقط؛ بل احتكاماً أيضاً. والواقع أنّ كل مشكلات الدول العربية في السنوات العشر الماضية، جرى اتخاذ قرارات في مجلس الأمن بشأنها. لكنّ أياً من هذه القرارات لم ينفَّذ أبداً أو لم ينفَّذ بشكل كامل. والدليل على ذلك أنّ الدول التي تسيطر فيها الميليشيات ما تزال عائشة تحت وطأة الاضطراب، بل الانهيار. هل كانت تلك القرارات مدعومة من دول الجامعة؟ نعم، كانت مدعومة من معظمها؛ بيد أنّ قلة فقط من تلك الدول تابعت تلك القرارات أو سعت لإنفاذها ولظروفٍ مختلفة؛ ومن بينها أنه كان لا بد من قوة عسكرية عربية على الأرض أحياناً، ومن بينها أن الدول العربية اختلفت خلافاً شديداً حول هذا النظام أو ذاك، وحول هذه الميليشيا أو تلك. وأخيراً وليس آخراً، إنه في كثير من الحالات فإنّ المتدخلين من الجهات الدولية اختلفوا فيما بينهم، فتعطلت حكماً القرارات الدولية.
نحن ندخل اليوم في مرحلة جديدة تماماً. فإذا كانت جهات التدخل طامعة في الحصول من بايدن على بعض التسليمات بالأمر الواقع؛ فإنّ طموحنا بالاستقرار والخلاص من الميليشيات يولّد الشرور الممكنة وغير الممكنة، أو لم يَرَ الأميركيون والعالم كيف تكوَّن تنظيما «القاعدة» و«داعش» وأمثالهما كنواتج عن الاحتقانات الدينية والإثنية والجغرافية التي اصطنعتها التغولات على الدول والمجتمعات؟! لقد رأت الإدارة الجديدة النواتج الكارثية لضغوط التوتر والتوتير، ومرة واحدة في أفغانستان وفلسطين والعراق وسوريا.
ثم إنّ الدول العربية تمتلك وعياً جديداً بقدراتها في التدخل من أجل التأثير لصالح الاستقرار والسلام الوطني. ودليلنا على ذلك تصرف مصر في أزمات غزة وليبيا ومع إثيوبيا. وفي كل هذه الأزمات ما عادت مصر تقنع بوقف النار؛ بل تسعى بمساعدة العرب والدوليين من أجل حلولٍ دائمة للمشكلات، تخدم أمن العرب وجوارهم وتُراعي مصالح الجميع. يقول المنطق المصري؛ غياب التضامن العربي والعمل العربي المشترك هو الذي يضطر بعص الدول للحرب، وإذا شعر الجوار والدوليون أننا مصممون فإنهم سيتراجعون عن التدخلات والاعتداءات. ولذلك وقد تهيأت الأجواء بالتحركات الدبلوماسية الواسعة التي قام بها المصريون والسودانيون، يذهب العرب جميعاً إلى مجلس الأمن، وإذا لم يحسم المجلس بسبب الخلاف الدولي، فالعرب حاضرون، كما أنهم حاضرون لإنفاذ قرار المجلس إذا حسم.
ونحن محتاجون إلى مثل هذا الموقف في فلسطين. فلا بد من مساعدة مصر في عمليات الإعمار. إنما الأهمّ أن يكون العرب جميعاً في الضغط على إدارة بايدن لاستكشاف آفاق حل الدولتين من جديد. ولا يبدو فريق السلام قوياً في الدولة العبرية الآن، لكنه سيكون كذلك إن شعرت فئات واسعة في الكيان أنه لا أمل في الاستقرار مع سياسات التوطين والاحتلال وتدمير المسجد الأقصى(!). في فلسطين لدينا رائد هو مصر، وكلما ازددنا قرباً من الحل في فلسطين، تحررنا من استتباعات إيران ودعاوى تركيا! وإذا كان التفاوض على الحل هو الركن الثاني؛ فإنّ الركن الأول هو وحدة الموقف الفلسطيني، وهي التي لمّا تتحقق بعد! وتستطيع دول عربية مساعدة مصر للوصول إلى ذلك. فالانقسام الفلسطيني يُسقط الحُلُم، ويخلدنا في وِهاد حروب الفعل ورد الفعل! هل تكون سياسات التضامن العربي سهلة؟
بالطبع لا، بسبب الإدمان على الانقسام. لكنّ استعادة التضامن تتضمن فوائد لا تكاد تُحصى، فضلاً على أنها تثير إعادة تأمل ومراجعة لدى الأعداء والأصدقاء.
المشكلات لم تقلّ. لكنّ النظر المستقبلي لوحدة العرب والمنطقة، يدفع باتجاه التضامُن من أجل خلاص الجميع.