درجت العادة في واشنطن أن تسعى كل إدارة أميركية جديدة للتخلي عن كثير من سياسات سابقتها.
المرشح الرئاسي أصلاً لا يصل إلا على صهوة مناقضة الرئيس الذي يدافع عن دورته الثانية... كل السجال الانتخابي، وفكرة «الديبايت»، يقومان على فلسفة واحدة: رئيس يدافع عن منجزه بشراسة بغية الفوز بإعادة الانتخاب، ومرشح يهاجم منجز وسياسات الرئيس الخصم بشراسة مساوية أو أكبر بغية الفوز بالبيت الأبيض.
صحيح أن الحكم استمرارية؛ كما تقول القاعدة الدستورية الديمقراطية العريقة. لكنها استمرارية العرف الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة واستمرارية القواعد العامة الناظمة للعقد الاجتماعي والفلسفة الاقتصادية والسياسة العامة للنظام.
كل ما عدا ذلك، من سياسات، قابل للتغيير وعرضة للابتزازات المتبادلة والمناكفة الحزبية، وفي كثير من الأحيان تنطبق عليه قواعد الانقطاع أكثر من قواعد الاستمرارية. في موضوع الإجهاض، مثلاً، تبادلت الإدارات الجمهورية والديمقراطية تشريعات وتشريعات مضادة كانت ولا تزال ترجمة لنزاع قيمي وأخلاقي وديني عميق حول هذا الموضوع الحساس.
وفي أحيان أخرى خسرت الأهواء الآيديولوجية للرؤساء أمام المصالح الموضوعية للأميركيين أو الأمر الواقع الإداري للنظام. لم يتمكن ريتشارد نيكسون من تفكيك سياسة «المجتمع العظيم» التي تزعمها ليندون جونسون لمكافحة الفقر والعنصرية في أميركا، وتخلى جورج دبليو بوش عن طموحاته لتطوير نظام الضمان الاجتماعي، وفشل باراك أوباما في إقفال سجن غوانتنامو وتوسع في تمكين السياسات الأمنية للدولة.
في العادة يبالغ المرشح الرئاسي في أميركا في التمسك بالثوابت الآيديولوجية، لكنه سرعان ما «يروّض» إزاء الوقائع الموضوعية حول الملفات الجاثمة على طاولته، وغالباً ما يصطدم بقصر الولاية الرئاسية المكونة من أربع سنوات، والمحكومة بانتخابات نصفية في غرفتي الكونغرس، وهو ما يحدد مستوى القطيعة عن الرئاسة السابقة أو منسوب الاستمرارية.
بيد أن هذه القطيعة ما بعد رئاسة دونالد ترمب، ووصول الرئيس جو بايدن تبدو أكثر حدة وعمقاً مما شهدته أي تجربة سابقة في تاريخ أميركا السياسي، إثر انتقال السيطرة السياسية من حزب إلى آخر!
فالرئيس بايدن وقع في الأسبوع الأول له في البيت الأبيض، أكثر من ضعف عدد الأوامر التنفيذية التي وقعها سلفه ترمب في الفترة نفسها، ويبدو أنه يعمل بوتيرة أسرع بكثير من الرؤساء السابقين المعاصرين لقلب إرث سلفه، ومردّ ذلك أن رئاسة ترمب لم تكن رئاسة عادية على مستوى الانقسام الاجتماعي والسياسي الذي عبرت عنه وفاقمته.
لم يتضح بعد، في أميركا اليوم، ما إذا كان البعد الآيديولوجي المضاد للترمبية سيطغى على البراغماتية التي هي سمة صناعة السياسة في معقل الديمقراطية الأول في العالم. يريد بايدن العودة إلى الدبلوماسية بوصفها أداةً أولى لسلوك أميركا في العالم؛ لا العقوبات والقسوة أو مغامرات الانفتاح المسرحي (اللقاء مع زعيم كوريا الشمالية) أو سياسة الغزل مع زعامات من فصيلة فلاديمير بوتين أو رجب طيب إردوغان.
يريد أن يحيي ويعزز صداقات واشنطن في العالم، لا أن يعزل الولايات المتحدة تحت شعار «أميركا أولاً»... ملفات قليلة سيحافظ على استمراريتها؛ أبرزها تطوير الاتفاقات التجارية مع الصين، وحماية وتعزيز اتفاقات السلام بين إسرائيل وعدد من الدول العربية بقيادة الإمارات العربية المتحدة.
في المقابل؛ فإن علاقة بايدن مع بعض عناوين السياسة الخارجية، تبدو مقلقة، لا سيما فيما يعني ملفات النزاع في الشرق الأوسط، التي تقود دوماً نحو المسألة الإيرانية، وذلك لأسباب ثلاثة.
1- يخوض الرئيس بايدن بملفات السياسة الخارجية صراعاً داخلياً أميركياً، يهدف أولاً وأخيراً لقلب إرث سلفه، مما يجعل قاعدة العمل هي التالية: «افعل عكس ما فعله ترمب؛ تفعل الصواب». قد لا تبدو تبعات مثل هذه القاعدة كارثية في قضايا الإجهاض أو اتفاقية المناخ أو العلاقات بين ضفتي الأطلسي. بيد أن نتائجها مدمرة في شرق أوسط معقد ومتفجر ولا يحتمل «النوايا الطيبة».
ولأن مقاصد بايدن داخلية وآيديولوجية، وليست مقاصد على صلة وثيقة بطبيعة النزاعات وحسابات أطرافها، فسرعان ما تنعكس سياساته سلباً على صورة أميركا وتظهرها بمظهر الارتباك وفقدان القوام المتماسك. لعل المثال الأكثر وضوحاً هو إزالة ميليشيا الحوثي عن قوائم التنظيمات الإرهابية، ثم العودة خلال أيام لتصنيف أبرز قادة الميليشيا إرهابيين!
الحقيقة أن الشرق الأوسط خلال الشهر الأول من حكم بايدن يبدو أكثر تفجراً وتوتراً واشتعالاً مما كانه في أكثر حقبات ترمب تشدداً وقسوة؛ من ازدياد عدد الهجمات الحوثية على المملكة، إلى رفع مستوى التهديد للملاحة البحرية كاستهداف سفينة إسرائيلية في خليج عمان، وصولاً إلى رفع مستوى التجرؤ على المصالح الأميركية في العراق.
2- يغري تراجع الشرق الأوسط على سلم أولويات أميركا بفرصة بالتجريب السياسي من دون القلق بشأن تبعات كبيرة على واشنطن. فإذا كان ملف الصين، مثلاً، لا يحتمل من بايدن انعطافات هدفها تغيير صورة أميركا، وضرب صورة ترمب والترمبية واليمين الشعبوي، فقد يظن البعض في واشنطن أن الأمر متيسر عبر الملف النووي الإيراني. الدبلوماسية والحوار وتعزيز الشراكة مع الأوروبيين ستحسن صورة أميركا وهذا الأهم، ولا ضرورة للقلق حول «الخسائر الجانبية» كاستئساد إيران على دول المنطقة وشعوبها! فنفط الشرق الأوسط ما عاد مهماً لأميركا، وإسرائيل لا تعيش تحديات السبعينات لناحية أمنها، وبالتالي لا داعي للقلق حتى من نتائج فشل التجريب إن كان يحتمل فرصة نجاح في تحسين صورة أميركا، وفق ما تتصورها إدارة بايدن!
3- التعطيل المبكر للانعطافة الكبيرة في التعامل مع إيران التي أقدم عليها ترمب، وحرمانها من أن تؤتي ثمارها، سيظهر أميركا في مظهر الضعيف، ويزيد من ثقة إيران الخطيرة بنفسها، ويشجعها على مزيد من التشدد والعدوان في المنطقة.
سياسة ترمب تجاه إيران؛ من العقوبات القاسية حتى اغتيال سليماني، أهانت وحجمت إيران وأجبرتها على انكفاء غير مسبوق، وهي لا شك انعطافة هائلة شكلت تحدياً لكل التصورات والافتراضات حول إيران. من كان يقول إن اغتيال سليماني أمر سيمر بهذا اليسر؟ الحقيقة أن كثيراً من نتائج الانعطافات الكبيرة في تاريخ السياسة الخارجية الأميركية؛ والتي تعدّ اليوم سمات طبيعية في مشهد العلاقات الدولية، لم تكن كذلك، وجوبهت بكثير من الرفض والممانعة.
«عقيدة ترومان» عام 1947؛ التي تقضي بوجوب قيام الولايات المتحدة بتقديم المساعدة السياسية والعسكرية والاقتصادية لجميع الدول المعرضة لتهديد الاستبداد، شكلت حجر الزاوية في سياسة الولايات المتحدة، لأكثر من نصف قرن، ولا تزال مستمرة جزئياً، رغم أنها جوبهت في بداياتها بتشكيك واستهجان الحزبين الديمقراطي والجمهوري. مثال آخر؛ هو دفع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب باتجاه توحيد ألمانيا بعد سقوط جدار برلين، الذي جوبه بتشكك وحذر أوروبيين هائلين نتيجة إرث حربين عالميتين مدمرتين تسببت فيهما ألمانيا الموحدة.
وخلافاً لهذا الرهاب الأوروبي وكثير من اعتراض النخبة الأميركية؛ ألمانيا الموحدة هي اليوم قوة ديمقراطية رصينة تقود القارة الأوروبية.
الشرق الأوسط مهم؛ وإن بدت أهميته أقل، وخطير؛ وإن بدت حرائقه قابلة للاحتواء. ببساطة، يمكن لأي إدارة أميركية أن تقرر ببساطة أن تترك الشرق الأوسط وشأنه، لكن القاعدة المثبتة حتى إشعار آخر أن «الشرق الأوسط لن يتركها وشأنها».