كوكبة كبيرة من شهداء الجنوب سقطوا في ميادين الشرف والكرامة في مراحل وظروف مختلفة، وفي كل مرة نُصدم بشهيد أو أكثر هنا أو هناك.. نبكيه ونرثيه ونسأل عنه ونحزن عليه. لكنّ كل ذلك لا يعادل شيئاً أمام ما يشعر به أهله وذووه، أمه وأبوه، إخوته وأخواته، والأكثر منهم جميعا زوجته وأولاده، الذين يترك لهم بغيابه "فراغ كبير" لا يستطيع أحد أن يشغله إلا هو فقط.
ملف الشهداء سيبقى "قضية أخلاقية" رفيعة ومعيار عادل ونزيه يمكن الحكم به على أخلاقيات القيادة سلباً أو إيجاباً من حيث الوفاء للشهيد أو خذلانه، وبالتالي حتى على أخلاقيات الوطن المنشود الذي قدّم هؤلاء الشهداء دماؤهم رخيصة من أجله.
ما لفت انتباهي بشكل كبير مع كل مأساة شهيد أمرين: الأول يدعونا للفخر والتبصر والثقة وهو ما يتعلق بـ "أم الشهيد"، فغالباً ما ظهرت "بطلة " متماسكة، شجاعة وملفته للانتباه بصلابتها وثباتها. وشاهدنا ذلك في أكثر من مناسبة وفي مواقف كثيرة تقشعر لها الأبدان كان آخرها موقف والدة الشهيد، عبدالمجيد بن شجاع، حيث جسّدت الوالدة الكريمة كل تلك المعاني مجتمعة في موقفها يوم أن توارى فلذة كبدها تحت ثرى الجنوب الطاهر. كانت تقاطيع وجهها التي أظهرتها الصور تحكي وترسم جميع ظروف الجنوب العسيرة التي يمر بها حالياً وكأنّها رسمت الجنوب في وجهها الكريم. والأمر الثاني هو الذي يقدّم نفسه لنا كحقيقة وليس كاستنتاج او تحليل منطقي أو خلاصة كلام. هذه الحقيقة تقول: إنّ جميع الشهداء قد سقطوا من أجل استقلال الجنوب وليس من أجل أي شيء آخر، وهذه الحقيقة وحدها تكفي لمن ليس لديه ما يُخجله في مواقفه المتخاذلة من الجنوب أن يخجل من نفسه.
"ملف الشهداء سيبقى "قضية أخلاقية" رفيعة ومعيار عادل ونزيه يمكن الحكم به على أخلاقيات القيادة سلباً أو إيجاباً "
سألت صديقي العزيز شاعر ثورة الجنوب، محمد بن شجاع: هل توجد لك قرابة مع الشهيد أم إنّه مجرد تطابق في الأسماء؟ فكانت إجابته عليّ حرفياً كما يلي: "أخي الغالي أحمد.. الله يرحم الشهيد ويسكنه فسيح جناته. الشهيد عبدالمجيد هو شقيقي الأصغر، أخي من أمي وأبي، استشهد وبجانبه شقيقي الآخر إسماعيل الذي حمله بعد استشهاده في الشيخ سالم، وكمان ولدي فهمي في اللواء الخامس دعم واسناد في الجبهة، وأولاد أخي إسماعيل هناك اثنان هناك أيضا، وأولاد عمي مرابطين في الجبهة للدفاع عن الجنوب العربي.." انتهت الرسالة.
عزّيت صديقي بن شجاع في مصابه الجلل ومصابنا جميعاً، وطلبت منه تقبيل رأس والدته العظيمة التي خطفت الأنظار بموقفها الصلب يوم دفن الشهداء، وفي رسالة صوتيه منه بعد ذلك، أوجعني كثيراً حينما أخبرني بمدى حب واحترام الشهيد عبد المجيد لي شخصياً وتأثره بي، وحينها شعرت كم نحن بالفعل "أقزام" أمام هؤلاء العملاقة الذين يكنّون لنا كل هذه المحبة والاحترام. ازدادت أوجاعي بعد ذلك حينما بعث لي صديقي بن شجاع رسالة صوتية من "الوالدة العظيمة"، أُمّنا جميعاً، تضمّنت كلمات كلها صلابة ووفاء وقوة وتفاؤل بالمستقبل رغم كل شيء قالت لي في "بعضها" ما يلي: "إنشاء الله أن ينصر الجنوب وأبنائه، وأنتم الله يوديكم لنا بالخير والسلامة إنشاء الله، بإذن الله والقرآن العظيم أن ينصر الجنوب، وابني.. شهيد للجنوب".
أمام كل هذه العظمة التي قدّمتها أسرة الشهيد بن شجاع وغيرها من أسر الشهداء والعلامات الواضحة التي رسمتها دماؤهم الزكية في مختلف الجبهات تتأكد المسؤولية على الجميع، ويُصبح خذلان هؤلاء، ليس فقط خيانة لهم وللوطن وإنما هو فعل يرتقي إلى مرتبة "الخيانة العظمى"، نسأل الله ألا نكون من أهلها.