صرخة ميت ؟

الخميس 11 يونيو 2020 3:17 م
في صباح يوم الثلاثاء الموافق/ 15 من يناير  عام 1929م كانت الولايات المتحدة  تستقبل صرخة طفل ولدا ميتا في اعتقاد الطبيب . في مدينة اتلانتا كان الطقس قاتم قارس بارد  .وكاد التوتر يفتك بالأب كينج ، وأفكاره مركزة حول زوجته (ألبرت) التي عانت أشد العناء في حملها للطفل وبعد ساعات من العذاب ولد الطفل (مارتن لوثر كينج)، وكادت القلوب تتوقف عن الحركة من أجله؛ لأنه بدا ميتا إلى أن صدر منه صراخ واهن، سببه صفعة شديدة للطبيب . كانت جذور هذا الطفل تمتد بعيدا في التربة الأفريقية التي اقتلع منها أجداده ليباعوا ويشتروا في الأراضي الأمريكية، ولكي تستغل أجسادهم وأرواحهم لخدمة السيد الأبيض.
لتصبح الجغرافيا نقمة علي هؤلاء
إلا أن الأب كينج كان ذا تطلعات واسعة، فعمل راعيا لكنيسة صغيرة بعد أن تلقى العلم في كلية "مور هاوس"، وعاش بعد زواجه في بيت صهره "ويليامز" رفيقه فيما بعد في حركة نضال الافارقة ، وهي الحركة التي سار فيها مارتن على درب أبيه وجده حتى أصبح أشهر الدعاة للمطالبة بالحقوق المدنية للأفارقة والأقليات. لذلك يمكن للبشر أن يختاروا أماكن حياتهم ، فيستقرّوا فيها أجيالاً بعد أجيال، ويمكن لمن أراد منهم أن يُغيّر هذا المكان إن أراد، أو أن يجد نفسه قد هُجّر قسراً عنه، كما تدل على ذلك تواريخ الكثير من الشعوب والأقوام التي وجدت نفسها مجبرة على ترك أوطان كانت لها، إلى أراضٍي أخرى.
لكن البلدان لا تختار مكان وجودها. الجغرافيا هي من تقرّر أن تتوزع البلدان على كوكب الأرض وفق حساب خارج عن إرادة البشر وعن قدراتهم في التحكّم فيه. لسنا من اخترع البلدان، فهي قائمة قبلنا ومحكومة بجغرافيا ما، كأن تكون مطوقة بالصحارى، أو واقعة على شواطئ بحار أو محيطات، أو أن تكون غنية بالنفط والمعادن أو بالغابات المطيرة، أو تعاني من القحط وشحّ المياه.. ولكن الأفارقة تم جلبهم من بلادهم بعقد عمل وليس عبيد .يبدو  أنة كان مختبراً نموذجياً لاختبارات الجغرافيا، ما يحملنا على السؤال عما إذا كانوا محظوظين بالموقع الذي اختارته الأقدار، أم أن هذا الموقع جلب لهم الأطماع والتدخلات والنزاعات التي تعيد إنتاج نفسها.علي أرض الأخر من صراع عرقي .إن التاريخ .والسياسة .والجغرافيا هي الأخرى تصنع الأدوار وليس التاريخ وحده، وتساهم في صنع الحضارات أو بالعكس في خرابها.والنزاعات العرقية والمذهبية 
البلدان محكومة بواحدٍ من قانونين إذا سري فيها القانون العدالة والمساوة والتعايش السلمي، عم الاستقرار والتنمية  والتعاون المثمر بين طوائف الشعب باختلاف ألوانهم وإما النزاعات والحروب والتدخلا والفوضى والنزاعات وربما الحروب الأهلية والدمار..وهذا الأمر بديهي لدى علماء الاجتماع والعمران، فمن أهم العبارات المأثورة عن( ابن خلدون ) مؤسس علم الاجتماع- أن "الظلم مؤذن بخراب العمران".
وهو أمر يعود إلى الفطرة البشرية السليمة، ولذلك فإنه من أقدم الرموز الحضارية المعروفة منذ الحضارات البشرية القديمة، هو ميزان العدالة الشهير، الذي نجده في كل الحضارات الإنسانية تقريبًا، وتماثيل العدالة -سواء تلك التي تجسد امرأة تحمل ميزان العدالة في يد، والسيف في اليد الأخرى، أو تحمل الميزان بينما تعصب عينيها- دلالة على الحيادية بين المتخاصمَيْن.لذلك يوجد في مدينة أتلانتا تماثيل مارتن لوثر كينج منتشرة في المدينة رمزا للعدالة .
وفي هذا الإطار، فإنه من بين أهم المجالات التي تتحقق فيها العدالة بين البشر، هي ساحات القضاء؛ حيث يحكم القانون بين الناس كافة، وفق ميزان العدالة، لافرق بين ابيض وأسود  وعلى أسس من النزاهة والموضوعية والحيادية.
وهو أحد الضمانات المهمة لاستقرار المجتمعات؛ حيث إن فقدان الناس لثقتهم في منصة القضاء ونزاهتها؛ سوف يدفعهم إلى الحصول على حقوقهم بأنفسهم، وهو ما يعني فوضى اجتماعية، وهو بكل تأكيد من عوامل ضعف بل انهيار المجتمعات .لذلك صنفت الحروب الاهلية أخطر الحروب ..لذلك كان فكر مارتن (الحلم ) بالكفاح السلمي او العصيان المدني الذي تعلمة من الصراع من غاندي ضد الاحتلال الانجليزي وليس صراع دموي .وكانت البدايه في سبتمبر سنة 1954 قدم مارتن وزوجته إلى مدينة (مونتجمري ) التي كانت ميدانا لنضال مارتن. كان السود يعانون العديد من مظاهر الاضطهاد والاحتقار، خاصة فيما يلقونه من شركة خطوط أتوبيسات المدينة التي اشتهرت بإهانة عملائها من الافارقة ، حيث كانت تخصص لهم المقاعد الخلفية في حين لا تسمح لغير البيض بالمقاعد الأمامية، وعليه كان من حق السائق أن يأمر الركاب الزنوج بترك مقاعدهم لنظرائهم البيض، وكان الأمر لا يخلو من السخرية من هؤلاء "النسانيس السوداء"! وكان على الركاب الافارقة دفع أجرة الركوب عند الباب الأمامي، ثم يهبطون من السيارة، ويعاودون الركوب من الباب الخلفي فكان بعض السائقين يستغلون الفرصة، ويقودون سياراتهم ليتركوا الركاب السود في منتصف الطريق!
واستمر الحال إلى أن جاء يوم الخميس أول ديسمبر 1955، حيث رفضت إحدى السيدات وهي سيدة سوداء أن تخلي مقعدها لراكب أبيض، فما كان من السائق إلا أن استدعى رجال البوليس الذين ألقوا القبض عليها بتهمة مخالفة القوانين؛ فكانت البداية..لكفاح مارتن الذي أدي الي قتلة في 14 من ابريل عام1968 .لتكون صرخة ميت في مدينة ممفيس يسمعها كل المستضعفين في الأرض ليعلن بعد أكثر من ثلاث عقود فوز رجل أسود علي عرش البيت الأبيض .هل صرخة جورج فلويد تحت أقدام شرطي أبيض .جاءت اليوم لأول مرة تعيين وزير دفاع رجل أسود ..
محمد سعد عبد اللطيف *
كاتب مصري وباحث في الجغرافيا السياسية *

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر