التاريخ لم ينته بعدُ بالنسبة إلى فصل الربيع العربي، كما يظُن الآن العديد من المحلِّلين ۔ الذين يتحدثون عن الانتقال إلى الشتاء. وهذا ما تؤكِّده ليس فقط يقظة الشارع السياسي العربي، "القادرة على إسقاط أي أنظمة مستبدّة أو فاشلة جديدة" کانت الموجة الثانیة للربیع العربی فی السودان ، والجزاٸر۔ ولبنان ، والعراق ، أسقطت حکم "البشیر "۔وحکومة " سعد الحریري "وفی العراق ،۔کذلك الجزاٸر ۔
كان الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة قد نجح لسنوات طويلة في التغلب على الحراك الشعبي بعد ثورات الربيع العربي، فإنه واجه احتجاجات واسعة لعدة أشهر أجبرته على التخلي عن السلطة لقيادات الجيش .۔ کما حدث فی مصر وسط استمرار الاحتجاجات التي تطالب بإسقاط جميع رموز السلطة في عهد بوتفليقة والعهود السابقة ومحاكمة كبار الفاسدين.
کذلك سقط الرئيس " عمر البشير " بعد احتجاجات استمرت شهور
وعلى الرغم من واقع المجتمع السوداني الذي يتميز بالانقسامات العرقية والدينية والقبلية، وتاريخ طويل من الصراعات والحروب الداخلية، إلا أن قادة الحراك الثوري نجحوا في تجنب جر البلاد إلى الفوضى بالدخول في صراع مسلح مع القوات الحكومية والأجهزة الأمنية على غرار ما جرى في اليمن وليبيا وسوريا بعد حملات قمع "دموية" تعرض لها المحتجون.
ودخلت العراق فی الحراك بعد عقود
من الحروب الخارجية والصراعات الداخلية وتفشي ظاهرة الفساد بعد غزو عام 2003 تراجع المستوى المعيشي إلى مستويات متدنية لا تتناسب مع حجم الموارد التي يمتلكها البلد.۔۔۔۔
وثمة أوجه شبه بين حالتي العراق ولبنان، إذ أن مؤسسات الدولة في البلدين تفتقد الاستقلالية الكاملة بسبب النفوذ الواسع لقوى مسلحة شبه عسكرية تمثل حالة قريبة من الدولة داخل الدولة، حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق.
كما أن العراق ولبنان يعانيان من تداعيات الصراع الطائفي والحروب الداخلية والانقسامات الطائفية الحادة في المجتمع، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة وتراجع المستوى المعيشي وسوء الخدمات الأساسية مع نسب فساد عالية في مؤسسات الدولة من قبل القيادات السياسية الرئيسية المهيمنة على السلطة.
بفعل طفرة لفکر جدید من الشباب المترافقة مع طفرة ثورة المعلومات. والحرص علی عدم الدخول فی مواجهات مع قوات الآمن ۔کما حدث فی الموجة الثانیة فی لبنان والجزاٸر والسودان ۔والتعلم من التجارب السابقة فی بلدان الموجة الآولي ۔۔
وفی کل عام مع ذکري ثورات الربیع العربي ۔وفى مثل تلك الأجواء المحتقنة بشحنات الغضب واليأس فإن المسئولين في السلطة عادةً تكون صدورهم ضيقة،، وأعصابهم متوترة،، وأمزجتهم منحرفة،، وعقولهم وجیوشهم منتشرة فی الشوارع والمیادین ، تحسباؑ لربیع آخر ، ومع ذکري " 25 من ینایر " تجف آقلام آصاحب الرأي عن مخاطبة السلطة بنقد موضوعي ، أو حتى بنصيحة مخلصة ، تطلُب من المُنوط به إدارة البلاد أن يقف ، ويتمهل ، ويُعيد النظر من جديد في الوضع الراهن ۔کثیر من أصحاب الأقلام الحرة یهربون من الوقوع فی المحظور ۔۔۔والإبتعاد عن المخاطرة بالکتابة فی هذة الأجواء العاصفة خوفاؑ من المصیر الذهاب وراء الشمس ؟
كل المحلِّلين، في الشرق والغرب، يجمعون الآن على أن الربيع العربي ما عدا ، دخل مرحلة الخریف أو حتى الشتاء، وبالتالي، هذا يعني ضمنیاً على الأقل، أن صفحة هذا الربيع طُـوِيَـت نهائياً وأن العمل "سيستأنف كالمعتاد" بالنسبة إلى الأنظمة السُّلطوية العربية.وأن الشعوب العربیة ۔إستسلمت للواقع بعد انتکاسات فی لیبیا ، وسوریا، والیمن ، وإعاة الوضع فی مصر الی المربع صفر ۔قبل 25 من ینایر 2011م
لكن هذه في الحقيقة معروفة لدارسي التاریخ السیاسي طبيعية إذا ما وضعناها في سياقها التاريخي ، إذ أن معظم الثورات في التاريخ، شهدت ثورات مضادّة، سواء نجحت أو فشلت . وثورات الربيع العربي لن تكون استثناءؑ فی التاریخ الحدیث وسوف نستعرض درؒوس وعبر من الثورات المضادة عبرً التاريخ۔۔ ففی عام 1688م قامت ثورة اليعاقبة لإعادة ملكية عائلة (ستيوارت ) إلى الحُكم وقامت ثورات مضادة للملکیات الآوروبیة عام 1848 م لإحباط الثورات الشعبیة ۔۔کذلك فی فرنسا بعد الثورة الآم لإعادة اللملکیین ۔ وفی أثناء الحرب العالمیة ۔وتعرف بثورة حکومة (فیشي ) التي استبدلت شعار الثورة الفرنسیة (الحرية، المساواة، الإخاء) ، بشعار (العمل، العائلة ، الوطن )
كذلك فی إيطاليا وبعد زحف جيوش نابليون ، نشبت ثورة مضادة ، أهمها ثورة (سانديسمو) وهي حركة رجعية قادها الكاردينال (فابريزيو روفو) سمحت بعودة أسرة البوربون إلى عرش مملكة نابولي.
ثم اندلعت ثورة أخرى في شمال إيطاليا ، بتحريض من أسرة البوربون والدول البابوية ما لبثت أن تحوّلت إلى حرب أهلية دامت نحو عشر سنوات.
وآخیرا فی الذکري التاسعة لثورة " 25 " من ینایر فی مصر لم استغرب من آقلام تطالب بمحاکمة شهداء وثوار 25 من ینایر ۔۔والبعض یطلق علیها الیوم الأسود ۔۔ لیعید نفس التاریخ للثورة المضادة فی بریطانیا ۔۔ ولعلى أُذکرؒ البعض بقصة (لأولیفر کرومیل ) وما حدث لة وما یحدث الآن لشیطنة (ثوار 25يناير)
كان ،کرومیل ، قد قاد أول ثورة في أوروبا ضد الملكية وهوى ( رأس الملك ) تحت أقدام الثورة ، وانتصرت الثورة بصيحات وتضحيات الثوار، و لكن حين دارت العجلة ومات “كروميل” وانتصرت الثورة المضادة وعادت الملكية الى انجلترا أصر ابن الملك العائد الى العرش بعد انتكاسة الثورة على محاكمة كروميل وتشكلت محاكمة لكروميل سُميت ((محكمة القرود )) وقررت بأمر الملك الجديد تنفيذ حكم الاعدام في كروميل ، ولكن كروميل كان قد مات .
أمر الملك الجديد حفر قبر “كروميل” وإخراج هيكله العظمى وعُلق الهیکل من حبل المشنقة ۔۔لیحاکم وهو میت ۔۔ إعدام میت ۔ هکذا حین تنهزم
قوى الثورة تشرب كأس دمائها قوى الثورة المضادة ۔۔ حتي ولو فی قبورها !؟
والثورة المضادة تعني ، إجراء مضاد لإجهاض الثورة الحقيقية وإلهاء الشعب والمجتمع عن البحث في المطالب والأهداف التي قامت من أجلها الثورة " عیش، حریة ، کرامةإنسانیة " ومدى تحقيقها من قبل الطبقة التي قامت ضدها الثورة.أنه لا يزال يتعيّن على أنظمة الثورات المضادّة أن تُثبِت قدرتها، ليس فقط على البقاء، بل أولاً وأساساً أن في وُسعها تحقيق المطالِب إن الأخطاء التي وقع فیها الثوار ۔ وکل التیارات السیاسبة و الشعبية ۔عن فترة ما بعد بیان السید " عمر سلیمان ۔" وتولي المجلس العسکري الحکم ۔ وبقاء الرٸیس "مبارك "فی شرم الشیخ بعد الثورة ۔ والمسرحیة الهزیلة ۔ فیما یسمي " محاکمة القرن " عن الطریقة التي تعامل الکل بها ۔ فی وضع مبارك فی السجن لا تلیق بتاریخ مصر ۔۔کان من المفروض وضعة فی قصر رٸاسي تحت الأقامة الجبریة وأن یحاکم أولاً عن 30 عاماؑ من الفساد السیاسي ۔ بجانب الجناٸي ۔ لقد تعامل مجلس قیادة ثورة 1952 م مع الملك فاروق بکل إنسانیة وتودیعة علی الیخت المحروسة وإطلاق 21 طلقه فی وداعة فی الإسکندریة الی نابولي مع کبار قیادة الثورة ۔۔ لقد سقط حکم الإخوان فی عدم تقدیر الوضع بعد الثورة ۔ والحالة الثوریة فی الشارع العربي ۔۔
إن الثورة هي انفجار عظيم يهدف الى التغيير. و أن “نشؤ حالة ثورية” في وطن من الأوطان هو ظرف لا يصنعه طرف واحد أو تنظيم معين مهما كانت كفأته ، وانما نشؤ الحالة الثورية يجئ نتيجة أوضاع اجتماعية واقتصادية تتراكم فوق بعضها البعض. لقد وصل الحال فی عام 2013 م الی تردي الأمر ا ، وأنه وصل بما لا يقبل الشك الى طريق مسدود.
وهكذا فأن الحالة الثورية في وطن لا يخلقها من العدم فرداً بذاته أو جماعة بعينها بالقصد أو بالتدابير، لأنها تاريخياً وعملياً أكبر وأعمق من أي قصد أو تدبير ، وكل ما هناك أن هذه الحالة تصبح احتمالاً مفتوحاً لأى طرف أو تنظيم ، يستطيع تحليل عناصرها ، وتشخيص عوارضها ، والتصدي لقيادتها في اللحظات الحاسمة.وهکذا کانت الدولة العمیقة علی مسافة قریبة من إعادة الأمور فی مصر الی ماقبل 25 من ینایر ۔۔
فجماعة الإخوان في مصر فشلت حين وصلت إلى السلطة في بناء جبهة مُوحّدة من قِوى المعارضة، التي قامت بالثورة، في وقت كانت قِوى النظام القديم تُعيد تنظيم نفسها استِعداداً لشنّ ثورتها المضادّة.
وتكرّر الأمر نفسه في سوريا، التي فشلت ثورتها في مرحلتها الأولى في طرح برنامج تغييري شامل، يمكن أن يستقطب الأقليات والمذاهِب وحتى سكّان المدن السُنّة، ما سهَّل على الثورة المضادّة التي شنّها النظام، أن تحوِّل الثورة إلى حرب أهلية مدمِّرة وأن تطلق العِنان للأصوليين المتطرِّفين الذين يشكِّلون غِطاء ممتازاً لطبعة النظام الخاصة من الديكتاتورية.
في ليبيا، كان الأمر أسوأ حين تحلّلت الثورة إلى فِرق ميليشيات وعِصابات، ما أفقدها كل مضامينها التحرُرية وفتح الأبواب والنوافذ على مِصراعيها أمام احتمال نجاح الثورة المضادّة. وقد تكرّر الأمر نفسه في اليمن، فيما نجت الثورة التونسية "في اللّحظة الأخيرة" من هذا المصير وقد ساعد علی ذلك صعود الثورات المضادة نتیجه الأوضاع الدولیة والعربیة والصراعات الاقلیمیة ۔۔
محمد سعد عبد اللطیف
کاتب مصري وباحث فی الجغرافیا السیاسیة