ليس الفساد وحده ما فجّر في لبنان ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول). ما تخطئه عين المراقب أن الفساد كان من أسباب نهضة البلد بعد الحرب الأهلية، وقد وظّفه الراحل رفيق الحريري، توظيفاً عبقرياً لتسريع مشروع الإعمار والنهوض. جاء الحريري إلى بلاد من خراب، تحكمها نخبة من أمراء الحرب الممسكة بأجزاء كبيرة من قرارات طوائفها، وإلى بلاد فوّض أمر رعايتها عربياً إلى نظام حافظ الأسد، الذي أسس، بحسب عبارة الكاتب جهاد الزين، شفاه الله، نظاماً واحداً في بلدين. وقد شكّل لبنان بورشته الإعمارية وبالفساد، حلاً جزئياً لأزمات نظام البعث الاقتصادية.
قرر الحريري الأب شراء الوقت من خصومه ومن حلفائه اللبنانيين والسوريين، ورفع سقف المزاد العلني على الذمم كي لا يزعجه مضارب آخر... لولا هذا لما تيسّر لأسطورة مشروع الإنماء والإعمار أن تتحقق. لم يعترض كثيرون على الفساد يومها، لأن وهج النجاح كان أكثر إشعاعاً، كما أن معظم الاعتراضات كانت تأتي من ثقافة يسارية قديمة، لا مكان لها في مناخ التسعينات؛ لا في لبنان ولا في العالم المتأهب لفجر جديد بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.
على النقيض من ذاك، انطلقت ثورة 17 أكتوبر من تلاحم الفساد والفشل معاً. فقرار وزير الاتصالات محمد شقير (من فريق الحريري) فرض ضريبة 6 دولارات على استخدام تطبيق «واتساب»، مثّل النقطة التي فاضت بها كأس الناس، من مجموعة سياسية عديمة المخيلة، وفي الحد الأدنى، تحوم حولها شبهات التورط في الفساد. الضريبة شكلت إهانة للناس، وقدمت لهم دليلاً على فشل المجموعة الحاكمة في اجتراح أي حل جدي لأي من مشكلاتهم، التي لو قمنا بتعدادها اليوم لظنّ القارئ أننا نتحدث عن بلد أفريقي أصيب بلعنة التخلف وليس عن لبنان الذي وصف ذات يوم بأنه سويسرا الشرق. ففي لبنان يدفع الناس أعلى فاتورة هاتف في المنطقة العربية، ومقابل خدمات أقل من عادية، دعك من سوء الإنترنت، وتردي الكهرباء والبنية التحتية والمياه والتلوث والنفايات والبطالة…
الفشل قبل الفساد. الفشل مقروناً بالفساد. الفشل الموصوف في كل تفصيل من تفاصيل المشهد اللبناني، لا سيما منذ اجتراح التسوية الرئاسية التي جاءت بميشال عون رئيساً «قوياً» للجمهورية وبسعد الحريري رئيساً للحكومة، برعاية مباشرة من «حزب الله» الذي نجح، تحت ستار التسوية، في تغييب الانقسام السياسي حول دوره وسلاحه وموقعه في خراب لبنان.
مع ذلك، وبعد ثلاث سنوات من التسوية، فشل أطرافها في مغادرة مربع الخلاف على الحصص، والسمسرات، والتلزيمات المتبادلة، إلى ملف الإنجاز... فشلوا وهم في عزّ هيمنتهم على القضاء، وعز قدرتهم على تحييد الإعلام، وعز قدرتهم على تهميش المعترضين حتى من القوى السياسية؛ أكانت تلك المشاركة في الحكومة كحزب «القوات اللبنانية»، أم تلك الموجودة خارجها كحزب «الكتائب»... فشلوا وهم في عزّ تنظيمهم مافيا الاحتكار التي لا تتجاوز أربع أو خمس عائلات تملك شركات في كل الميادين؛ من النفايات إلى النفط، وما بينهما، ويُدير أركانها بعض الطبقة السياسية، بالتنسيق والتفاهم مع «حزب الله» المتروكة له القرارات السياسية الكبرى.
هي انتفاضة ضد الفشل قبل أي شيء. انتفاضة جيل يعرف الأهمية المركزية للنجاح. متطلب؛ اعتاد الجودة التي يسهل الاطلاع عليها عبر الشاشات المسطحة لألواحهم وهواتفهم الذكية. انتفاضة ضد مجموعة من الفاشلين، والمدعين والمنتفخين، هم جل أركان السلطة الحالية في لبنان، وأركان التسوية.
صحيح أن الربط بين الفشل وسلاح «حزب الله» لم يتبلور بشكل واضح في المظاهرات، لكن هذا ما سمح للشيعة بأن ينتفضوا من دون عقد. يعرف المنتفضون في كل لبنان في العمق أن هذه التركيبة يديرها «حزب الله» ويحميها «حزب الله» وبالتالي هو قائدها الأول وليس ضحيتها أو العاجز أمام جشعها. فما كان للعهد وجبران باسيل، الذي بات العدو الشعبي رقم واحد، أن يتمادى في استعراض القوة لولا «حزب الله»، ولا كان سعد الحريري ليخضع لمزاج عون وسادية باسيل تجاهه، بعد أن فقد كل شيء.
يكفي للتدليل على ذلك أن يقرأ المرء خطاب حسن نصر الله الأخير، ويلمس مدى الحرص على التركيبة القائمة. فهو رفض إسقاط العهد، ورفض إسقاط الحكومة، بحجة أنه لا يريد الفراغ. الحقيقة في مكان آخر. هو يدافع تماماً عن الفراغ الذي يُعبَّر عنه بامتلاء المناصب بهذا النوع من السياسيين، الذين باتوا عبئاً على البلاد وناسها.
سقطت في الشارع الورقة الإصلاحية التي ابتكرتها الحكومة المترنحة، من دون أن يقرأ منها المتظاهرون حرفاً واحداً. لأن المشكلة في مَن يطرح الحلول، قبل أن تكون في طبيعة الحلول نفسها. المشكلة في فجوة الثقة التي باتت ثقباً أسود يبتلع كل التركيبة الحالية، ولو بالتدرج.
ما عادت الناس تخاف من سؤال: «من البديل»... البديل هو الناس نفسها التي استردت ثقتها واحترامها لذاتها، وتعززت قناعتها بأنها تستحق أفضل، وستجد الأفضل... البديل هو أن نرفض الفشل والفاشلين... فلا شيء أسوأ من الفراغ.