الجموع عندما تندفع إلى الشوارع، تكتب شعاراتها بحبر الرفض ويصرخ صوتها بفم الرغبة العامة. تجمع على ما ترفض وتختلف على ما تريد. ترفع اسم من تطلب منه أن يغادر، وقلما تعرف اسم الراغبة في قدومه. الجزائر لا تخرج عن هذا القول العام ولكن تبقى لها خصوصيتها المعقدة تاريخياً واجتماعياً وسياسياً. كانت حقبة حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي هي التي صنعت المعمل الذي ينتج القيادات السياسية العليا والمتوسطة عبر حزب جبهة التحرير الذي يتوحد مع الجيش الشعبي. بقيت السلطة في يد هذا الثنائي الواحد لسنوات طويلة. تداخلت السلطة بالنظام والوطن، صار هذا المثلث مكوناً واحداً، له من الصلابة ما لا تستطيع أي قوة من داخله أو خارجه أن تهز أركانه. خلال العشرية السوداء التي نشرت طوفان الدم والرعب والدمار والقتل، اهتز هيكل البناء السياسي، أي حزب جبهة التحرير لكن الجيش حافظ على تماسكه وساهم بقوة في إعادة الفاعلية للذراع السياسية للنظام.
في المرحلة الحاسمة لمفاوضات الاستقلال مع فرنسا برزت القيادات السياسية مثل يوسف بن خدة الذي قاد الحكومة المؤقتة ولكن بعد الاستقلال برزت شخصيات من صفوف المقاتلين في معركة الاستقلال وعلى رأسهم أحمد بن بلة. ترأس البلاد في مرحلة غاية في الصعوبة والتعقيد. بعد قرن وثلث من الاستعمار الفرنسي العنيف والحرب الشعبية الجزائرية الشاملة في معركة من أكبر معارك التحرير في القرن العشرين، لم يكن من السهل تأسيس نظام سياسي لا يحمل فوق كاهله وفي داخل مفاصله ذلك الموروث الذي تراكم عبر حقب من الاستعمار الغاشم وحرب التحرير العنيفة التي شكلت واقع وضمير وعقل الشعب الجزائري. لم يكن لدى حزب جبهة التحرير آيديولوجيا فكرية سياسية مثل الفيتناميين أو الصينيين، صار التاريخ هو الآيديولوجيا التي تفعل فعلها دون أن تكون مكتوبة على الورق.
الرئيس بن بلة لم يستوعب طبيعة مفاصل القوة الجديدة التي تخلقت بعد قيام دولة الاستقلال، ونوعية الخيوط التي تربط جيش البلاد المستقلة بالجسم السياسي وآلية القرار، فأصبح عملياً خارج الجسم السياسي والعسكري. العقيد هواري بومدين الذي قاد الانقلاب على بن بلة، حمل مؤهلاً خاصاً به وهو أنه كان سياسياً برتبة عسكرية. استطاع أن يجمع في قبضة يده جناحي القوة السياسي والعسكري، فهو زعيم حزب جبهة التحرير ووزير الدفاع ورئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الدولة. هذه الوضعية صممت شكل الدولة وطبيعة النظام وخطوط العلاقات بين أطراف الحكم.
لم يعين بومدين نائباً له وكل من كان معه من وزراء وقادة عسكريين كانوا أشخاصاً ينفذون ما يقرره الزعيم.
سألت مرة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة: كيف لم تفكروا بتعيين نائب أو معاون للرئيس بومدين ليحل محله في حالة رحيله؟ رد قائلاً: للأسف كنا جميعاً نعتقد أن بومدين لا يمكن أن يمرض وما من أحد منا فكر في موضوع رحيله. ذكرني ذلك لما حدث مع أعوان الرئيس جمال عبد الناصر عندما انهارت حالته الصحية فجأة، وتحلق حوله كبار مساعديه والأطباء يسابقون قدراتهم لإنقاذ حياته. خرج أحد الأطباء ليخبر الحاضرين بوفاة الرئيس فتقدم الفريق محمد فوزي وزير الدفاع وأخذ يصرخ في وجه الطبيب قائلاً: لا لا، الرئيس يموت؟!!!
الزعماء يصممون بنيان الأنظمة السياسية، ومع مرور الزمن يصبح لهذا البنيان صلابة يصعب تفكيكها أو حتى تعديلها. المشكلة بل المأساة عندما يفرض التطور حتمية التغيير أو التعديل ويصبح الكيان مثل الجبل الذي يقاوم كل معدات المساس بصلابته. العامل الآخر الذي كان له أثر في كثير من الدول التي استقلت بعد سنوات من الاستعمار، أن القادة الجدد قاموا بإدارة الحكم ولم يعملوا على تأسيس الدولة، وكيان الدولة غير نظام الحكم، وكثيراً ما تداخل الأمران عند حكام ما بعد الاستقلال وهذا ما حدث في الجزائر وغيرها من البلدان.
انتفض الشعب الجزائري رافضاً تجديد ترشح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لفترة رئاسية خامسة. كان هذا هو المطلب الوحيد في بداية المظاهرات، وبعد مبادرة الرئيس بتراجعه عن الترشح وتأجيل إجراء الانتخابات الرئاسية، رفع المتظاهرون السقف إلى المطالبة برحيل كل أعمدة النظام. أعلن الرئيس عن حزمة من المبادرات والتعيينات. رفع المتظاهرون السقف عالياً، المطلوب تغيير النظام وألا يكون أحد من رموزه في سدَّة القيادة الجديدة.
اتسعت المظاهرات لتشمل جسماً اقتصادياً حساساً هو قطاع النفط الذي يشكل المورد المالي الأساسي في البلاد، وإلى أين تتجه الأوضاع بعد حملة الاعتقالات في صفوف المتظاهرين؟ والسؤال من هو البديل الذي يمكن أن يتولى القيادة، من المتظاهرين أم المعارضة؟ المتظاهرون ليس لهم قيادة ولن يبرزوا شخصيات لها القدرة والقبول العام، ناهيك عن التوازن المهني والجهوي وربما الثقافي والعرقي. المعارضة فسيفساء يتفق جلها على رفض النظام لكن تختلف على طبيعة البديل من حيث الشكل ورموز البديل المنشود. النظام القائم بجناحيه السياسي والعسكري في خضم الأزمة المتصاعدة يتحرك في فضاء قلق، هو مرغم على تقديم أفكار لتسويات، وكلما خفَّض النظام من سقف مواقفه رفع المتظاهرون ومعهم أقطاب المعارضة سقف المطالب التي تتحرك إلى أعلى مع كل ارتفاع لحركة التظاهر واتساعها عبر مناطق البلاد.
إسقاط النظام في الجزائر يعني إسقاط الدولة بل إسقاط الوطن، لأن هذا المثلث متداخل ومتصلب منذ السنوات الأولى لقيام دولة الاستقلال، إذن ما هو المخرج الواقعي والعملي من هذا الوضع الخطير على كل شيء في البلاد؟ معركة رفع السقف من جانب المتظاهرين لن تتوقف، وترجرج مبادرات النظام في فضاء ملغوم ومرتبك لن تفتح أبواب الحل. تشكيل قيادة مشتركة من النظام ورموز الحراك الشعبي وأحزاب المعارضة الرئيسية ببرنامج مرحلي يعيد تأسيس الدولة الجديدة التي يجد الشباب والنخب السياسية والمهنية مكاناً لهم فيها وبما يعي حقيقة الواقع دون أن يتجاهل ما صنعه التاريخ من تراكم ما زال يفعل فعله في كل مكونات المجتمع. هل تكون سيطرة الجيش عبر الاستيلاء الكامل على السلطة خيار مطروح؟ طبيعة تطور الأوضاع تكتب الجواب. معركة السقف والفضاء تدور فوق جسد الوطن ولن يكون فيها منتصر إذا غابت بوصلة الجزائر الأسطورية التي أبدعتها سنوات الجمر، سنوات الجهاد.