توقفت قليلا عن درب الحياة، فأحسست منها ما كان يغزوني من نوائبها و تسلط عواطفها، فرأيت العجب العجاب في ثانية، فنادتني: سر أم أنك تريد أن تُسْمي بين أكناف القبور؟ فأجبتها بخذول، ليس بحكمتكِ هذا الأمر، إنه من الأجل مقسوم و حضرني حينها من الحكمة البالغة :
قال علي بن أبي طالب رضي الله عليه : ما للعباد سوى الفردوس إن عملوا وإن هفوا هفوة فالرب غفار.
قال الشاعر :
المَوتُ بابٌ وَكُلُّ الناسِ داخِلُهُ
فَلَيتَ شِعرِيَ بَعدَ البابِ ما الدارُ
الدارُ جَنَّةُ خُلدٍ إِن عَمِلتَ بِما
يُرضي الإِلَهَ وَإِن قَصَّرتَ فَالنارُ
فعمَ حنئذٍ صَمْتَ الكلام بيننا و هْدَأتْ الحركة في جسدي فمشيت في دربها المحتومُ المقدورُ و أنا أتأمل في تهجم جيوش العواطف التي تتكالب علي كلما غفلت عن الاستغفار. وأنا أفكر لأجد طريقة تلازمني حتى أتجنب و أتحاشى شهواتها و غرورها و وسوسة الشيطان "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فأكرر التعوذ، فأجد بعضا من الراحة و الإطمئنان و أتذكر أن الصبر و الذكر هما السبيل ومفتاح الجنة.
في عينيكِ يا سيدتي قرأت مأساة و مأساة وفي عينيك قرأت آهات و آهات و في عينيكِ قرأت الغرور و المغريات. أتدرين مَنْ أنتِ يا سيدتي؟ أنت الكون بأكمله، أنتِ كل العالم الذي يبحث عن الإنصاف، أنتِ رمز الحرية و المبتغى الذي تلتقي فيه كل الطموحات، أنت الحياة و التمتع الزائل، أنت الكل في الكل و في الأخير أنت الأدنى، أنت الإمتحان الذي لا ريب فيه، أنت تمثلين كل شيء و لا يبقى منكِ شيء، أنتِ فاتنة العقول المثمرة بالشهوات، أنتِ الحتمية المقدرة، أنتِ منبع الشوق في الخيال، أنتِ كل فوز و كل هزيمة، أنتِ محطة غفلة النفوس، أنتِ المحتومة و المرغوبة، أنتِ محطة الزاد النافع و المخيب. أنتِ الأمر المحتوم و المقدر، أنتِ النشء الطالع و خيبة المشايخ. أنتِ لعب و لهو و زينة وتفاخر و تكاثر، أنتِ الطاعم لا يشبع منكِ و الشارب لا يروى منكِ و الناظر لا يمل منكِ، أنتِ مَنْ علا فيكِ نزل و مَنْ تجبر فيكِ ذل و مَنْ علم فيكِ ظل و مَنْ ساد فيكِ تاه، أنتِ متاع الغرور.
فقالت في صرخة الفتنة و التعجب! ألَسْتُ المحطة التي لا مفرلكَ عن عبورها، ألسْتُ المحطة التي تحضر زادكَ منها ليوم الغد، ألستُ المحطة التي يراد التمتع الأزلي فيها، أنا سابقة الخلود، أنا الممهدة لأمر عظيم، أنا مَنْ جد فيّ أفلح و من تكاسل خذل، أنا أيامي معشوقة و نهايتي مسروقة، أنا فاتنة كل موجود و خاذلة كل موعود أنا مبتغى كل ملهوف. فصمتُ مرةً أخرى تسود علي حتمية المرحلة، فبكيت و استبكيت و نظرت في حقيقتي أتأملُ فيما حولي فحضرني في تلك اللحظة، أن الصراع المحتوم بين بني البشر مع الدنيا لا يستثني العالم و لا الجاهل و لا المغفل، صراع مقرون بمدة الوجوده فيها.
فبدوري اعترفت أن وجودي مكتوب و عمري مأجول و ورزقي مقسوم و عملي محسوب، فراودتُ نفسي بعد أن ذهبت تسبح على شواطئ بعيدة و مهدتُ لها جلوس الحكمة و الرشد في العمل مع الواقع و خاطبتها بالتي هي احسن و بالمقبول في عالمنا. فأصبح المفيد والمغزى النهائي هو المغفرة و الإعتراف بالمرحلة الحتمية، ففطنت من غفلتي و رجعت لنفسي من هواجسها الفتانة لأتمم أجلي بعد صراع محتوم بيننا ختامه الزوال و الندامة، وأنني تعديت عليها من أجل تغيير دورها بدل من أصحح دوري. لأنني من الأمة التي منحها الله كل الوسائل التي تُمكنها من اجتناب الشر و المنكر و أعمل الخير، وباستطاعتي تجنب شرها و مكرها إن تأملت في دوري و ما يترتب عليه في النهاية، و إن كنت مغفلا او جاهلا أو مقلدا لها فالعاقبة وخيمة. و حضرتني حكمة زهير و مقولة الفيلسوف فزهير قال:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعش * ثمانين حولا لا أبا لك يسأم
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله * ولكنني عن علم ما في غد عم
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب * تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
ومن لم يصانع في أمور كثيرة * يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه * وإن يرقى أسباب السماء بسلم
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه * يهدّم ومن لا يظلم الناس يُظلم
لا تكتمن الله مافي نفوسكم * ليخفى ومهما يُكتم الله يعلم
يؤخر فيوضع في كتاب فيُدخّر * ليوم الحساب أو يعجّل فينقم.
أما الفيلسوف برتراند راسل قال:
الذي ليس لديه أيّ حس فلسفي ، هو انسان يعبر الوجود وهو مسجون في الأحكام القبلية التي يتلقاها من الحس المشترك والمعتقدات المألوفة لزمانه ووطنه والقناعات المتراكمة التي طوّرها دون تعاون و موافقة عقله.