تشريح المفاجأة الاستراتيجية

الاثنين 23 أكتوبر 2023 6:21 م

في كتاب نشر عام 1962 عن جامعة «ستانفورد» الأميركية بعنوان «بيرل هاربر: التحذير والقرار» تناول المؤلف روبرتا هولستتر هذه العلاقة بين المعلومات وتفسيرها فيما يخص الهجوم الياباني على بيرل هاربر، وبعده لم تجد الولايات المتحدة سوى الدخول في الحرب العالمية الثانية. الأطروحة الأساسية في هذا الكتاب كانت أن المفاجأة لم تحدث نتيجة نقص في المعلومات وإنما في سوء إدراكها؛ وهو ما حدث نتيجة «الإشارات» التي تقول شيئاً ما عن نوع الخطر أو النيات الخاصة به، و«الضوضاء الخلفية» التي هي نوع آخر من الإشارات التي تتناقض مع الإشارات الأخرى. بارتون ويلي في عام 1973 كتب عن «العملية بارباروسا»، الغزو الألماني لروسيا في الحرب العالمية الثانية، وميز ما بين المعلومات غير ذات القيمة التي تعقد عملية تحليل المعلومات وتجعلها دون جدوى، والمعلومات المدسوسة عمداً من قِبل الخصم لكي تضلل الطرف المعني. وفي الدراسة الشاملة لـ«ألكسندر جورج وريتشارد سموك» عام 1974 عن «الردع في السياسة الخارجية الأميركية» جرى التمييز ما بين «البيئة النفسية» للقرار، و«البيئة العملياتية» له، وتم التحذير بشدة من أخطار التحيزات العرقية. وبينما أكد هولستتر على أن مفاجأة بيرل هاربر حدثت بسبب الميل الإنساني لرؤية ما نريد أن نراه أو نتوقع رؤيته، فإن جورج وسموك قدما أن ذلك جزء من مجموعة الحواجز النفسية التي عادة ما تقف حائلاً مانعاً دون رؤية الحقيقة الواضحة! هاندل أشار فيما يتعلق بحرب أكتوبر 1973 إلى ثلاثة أنواع من الضوضاء؛ أولها تلك التي يقوم بها الخصم من خلال الخداع الاستراتيجي أو التكتيكي، وثانيها الضوضاء التي تنجم عن وجود بيئة دولية أو إقليمية صراعية، وثالثها الضوضاء التي ينزلها الطرف المعني بنفسه من خلال مفاهيمه ومعتقداته ومدركاته.

وربما كان روبرت غريفز أكثر من وضع إطاراً شاملاً لتفسير حدوث المفاجأة الاستراتيجية عام 1976 عندما وضع الشروط الستة لحدوث المفاجأة، وأولها صورة الخصم، وثانيها تحليل المعلومات على ضوء الاهتمامات الجارية، وثالثها تفسير الرسائل القادمة على ضوء الرغبات والتوقعات، ورابعها استخدام أمثلة تاريخية لتفسير وقائع راهنة، وخامسها تفسير المعلومات على ضوء المعتقدات المستقرة، وإذا كانت مخالفة لها فإن قبولها يكون في حدود تغيير طفيف في هذه المعتقدات، وسادسها لا يخص مُستقبل الرسالة وإنما من أرسلها الذي يتصور أن ما أرسله واضح تماماً بينما هو غامض ومتناقض. وعلى ذلك فإن الصورة التي كانت مستقرة لدى إسرائيل ـ وكذلك الولايات المتحدة ـ قُبيل حرب أكتوبر هي أن العرب منقسمون وقادتهم غير قادرين على شن حرب ضد إسرائيل، وأنه لا يوجد أمامهم إلا الخيار الدبلوماسي ليتبعوه، وبالنسبة للاتحاد السوفياتي، القوة العظمى في ذلك الوقت، فإنه خوفاً من هزيمة عربية أخرى لن يسمح للعرب بشن هذه الحرب.

كل ما سبق كان جزءاً من رسالتي للدكتوراه عن «الولايات المتحدة وأزمة أكتوبر 1973 في الشرق الأوسط» عند تشريح المفاجأة الاستراتيجية التي حدثت في الحرب التي قامت بها مصر وسوريا لتحرير أراضيهما المحتلة من إسرائيل منذ عام 1967. وما لفت النظر في هذه المفاجآت التاريخية أن طرفاً كانت لديه معلومات كافية أو كاملة عما يستعد به الطرف الآخر لتحقيق المفاجأة؛ ومع ذلك كان هناك فشل كامل في اتجاه أن الطرف الأول لن يقوم بما قام به. اختلف المحللون في تحديد أسباب العمى الاستراتيجي الذي جعل الطرف الثاني يصل إلى استنتاجات كانت لها نتائج وخيمة. المفاجأة التي قامت بها «حماس» تجاه إسرائيل يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الحالي كانت من نوع فريد، وهو أن إسرائيل لم يكن لديها أي نوع من المعلومات رغم الأبعاد المتعددة للهجوم بين البر والبحر والجو، والصواريخ والأسلحة التقليدية. ولذا من الناحية الدراسية فإن أحداً لم يقتصر على رصد المفاجأة، وإنما أضيف إليها حالة «الفشل المخابراتي» الكاملة. لم تكن هناك معلومات أصلاً حتى يساء تفسيرها.

يجب التنويه أن «المفاجأة الاستراتيجية» ولو أنها تحقق المبادرة في الحرب، ولكنها لا تضمن نتيجة الحرب الكلية، التي تقوم رغم كل شيء على توازنات القوى بين الطرفين. فرغم بيرل هاربر فإن الولايات المتحدة كانت هي التي كسبت الحرب وخسرتها اليابان. ورغم العملية «بارباروسا» فإن ألمانيا كانت هي الخاسرة بينما كان الاتحاد السوفياتي هو الرابح. في حالة حرب أكتوبر 1973 العربية فقد أدت إلى خلق حالة من التوازن سمح في النهاية بتحقيق السلام بين مصر وإسرائيل؛ ولم يكن ذلك ممكناً لولا أن الرئيس السادات كان يعرف حدود القوة، وأن مفاجأته الاستراتيجية كانت جزءاً من استراتيجية متكاملة فتحت أبواباً مع الولايات المتحدة، وحصلت على أسلحة متطورة ومناسبة للاستراتيجية العسكرية المصرية، وكانت في كل ذلك لديها تأييد دولي وعربي واسع.

حالة مفاجأة «حماس» الاستراتيجية لا تزال في أيامها الأولى، وسوف يأتي دورها في دراسات مقبلة، ولعل أهم ما سوف يلاحظ عليها هو غياب استراتيجية متكاملة، وما ذكر منها لم تكن هناك إشارة عليه في الواقع العملي. الاستراتيجية الأولية لـ«حماس» هي أن تكون مفاجأتها بمثابة العامل المفجر لحرب شاملة تفتح بها جبهات من الضفة الغربية وسوريا ولبنان وإيران، وكان ذلك ما جاء في خطاب القائد العسكري لـ«حماس» محمد ضيف أو أبو خالد. ولم يكن في يد «حماس» لكي تعطيه للعالم سوى خطاب المظلومية الفلسطينية، واتهامات المعايير المزدوجة، وتجنب القانون الدولي وقرارات «الشرعية الدولية ذات الصلة». لم يكن لديها وقد حصلت على المفاجأة مبادرة تعكس فيها إدراكها لحدود القوة، وأكثر من ذلك لجأت إلى استخدام المختطفين بوصفهم أداة لحماية الذات.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر