معاناة وأكباد المعلم المصري

الاثنين 30 أغسطس 2021 7:06 م

جلست وزملائي المعلمين ، نشتكي أحزاناً كستْ قلوبنا ، وأوجاعاً سكنتْ أجسادنا لا تُغادره ، وأمراضاً عضوية ونفسية كادت أن تُعسكر في أبداننا ، بسبب مشاق مهنة التدريس ، وما نَبذله وجموع المعلمين ، من جهود مُضنية ، لا يتحملها إلا فئة العصبة أولي القوة ، وتساءل كل منَا ، إلي متي ستستمر تلك المعاناة اليومية التي تلازم كل معلم ، منذ قيامه من فراشه ، وكأنه مقصوم الظهر ، ثم خروجه من بيته ربما فجراً ، ثم عودته للبيت قُرابة منتصف الليل ، إنه شيئ يدعو للحزن ، أن يغادر المعلم بيته باكراً وأهله نائمون ، ثم يرجع إليهم ليلاً ، ليجد النوم غلبهم ، بعد طول إنتظار !!
ليس من الطبيعي أن يعمل المعلم ، لمُدَة تزيد عن خمسة عشر ساعة يومياً ، مستقطعاً من وقته وأنفاسه وعافيته ، داعساً في الأوحال والمياة حين الأمطار الغزيرة شتاءً ، مُتحملاً الحرور والحرارة الحارقة صيفاً ، زائراً للبيوت لأجل الدروس المنزلية ، مُهرولاً أحياناً ، ومُسرعاً في مشيته أحياناً أخري، صاعداً علي قدميه الطوابق العليا جداً ، قلقاً علي كرامته ، من والد أو والدة طفل ، قد ينهره أحدهما أو يُوبخُه إذا ما تأخر عن ميعاد درس نجْلُه ، بل يخشي أن يصل لبيت تلميذه فلا يجده ، ووقتها تقتله الحيرة فيظل سائحاً في الشوارع ، لا يدري أن يذهب، وكيف يقضي وقته الضائع ، حتي يأتي ميعاد حصة الدرس التي تليها !!
وهكذا يظل المعلم علي حاله من البؤس تُغطِي يومه ، مُتزيناً بتاج الصبر لمواجهة أزمات عمله داخل المدرسة ، ساعياً لكبت شغب طُلابِه وإحتواء غضب أُولي أمرهم ، مُجهداً لصوته وحنجرته لأجل تعليم وتهذيب الطلاب ، ثم يغادر مدرسته مسلوب العافية ، ذاهباً إلي حيث دروسه الخاصة متحملاً ما لا طاقه له به !!
ولذا فإن المعلم يخرج من عناء إلي عناء ، ويظل هكذا ، حتي الرجوعلمنزله ، خائر القوي البدنية ، متفككة عظام جسده ، يكاد أن يُغشي عليه ، ولذا تراه مُتعجلاً بإستقبال ولو أرضية حجرته للإستلاق عليها ليُريح جسده وظهره وكلتا رجليه من آلام الجهد اليومي ، وربما لا يتوقف لسانه عن إصدار آهات الوجع الشديد.
مسكين المُعلم المصري ، مضغوط وقته ، يتناول طعامه في عُجالة ، راغباً في الفوز بحفنه من النوم أو النعاس ليُعطي بدنه حقَه ، وليُطفئ صداعه المتأجج ، فلا يجد لذلك وقتاً ، فلا تتعجب وإلتمس له الأعذار ، لو رأيته مُتعاطياً للمُسكنات والأدوية المهدئة ، أو مُحتسياً للقهوه فنجاناً وراء الأخر ، كي يتنبه وينتعش عقله ، ويتيقظ من نعاسه وشروده وخموله !!
إن الجدول اليومي للمعلم ، لا وقت به يُسعفه لأية مشاركات إجتماعية عنوانها الفرح أو الأحزان .. ولا وقت لدي المعلم كي يواسي مصاب في مصيبة أو يصل لرحم أو يعود مريض إلا ما رحم ربي ، ولا وقت لدي المعلم ليجالس أولاده فيحنو عليهم ، إنه يود لو أن هناك رخصة بالشريعة والدين ، تجوز له أداء جميع صلواته قصراً ، إما جمع تقديم أو تأخير ، ليجد مُتَسعْ من الوقت ، ليوسع دائرة عمله ..غير مُقتنع برزقه !!
إن المعلم لو أراد أن يقضي حاجته ليُريح أمعاء بطنه ، أو أجبرته الرغبة في التخلُصْ من بَوْله المُحتبس ، ربما لا يجد ” بيتاً للراحة ” ليستريح .. فيظل يعاني العذاب من حبس فضلات بطنه وبَوْلِهالزائد في مثانته التي تكاد تنفجر، وهو كاظم لألمُه وصابر عليه ،ممتنعاً علي الشكوي ، حتي يُكتب له الشفاء بذهاب الأذي !!
أما الطالب فهو سُلطان مُنعَم في بيته ، والمعلم يأتيه ويقرع باب بيته ، شاء الطالب أن يفتح له أو أبي .. بل إن هناك طُلاباً ، ينظرون من العين السحرية الموجودة بباب المنزل ، فإذا أبصر أحدهم مُعلمه ، لا يفتح له ، ويتركه يقرع الباب وينادي ، حتي يمِل مُعلمه وينصرف حزيناً وغاضباً !!
إنني أتحدث عن مهنة قوامها المشاق ، تزداد معاناة رُسُلها من المعلمين الكرام يوماً بعد يوم ، إنها مهنة جعلت من شباب المعلمين شيوخاً أصابهم الوهن الشديد ، يخشي كثيراً منهم أن يقبضهم الموت قبل أن يتمُوا الأربعين عاماً ، ولعل الأمر العظيم الذي يُجبرالمعلم للعمل ليلاً ونهاراً بهذا ظالماً لعافيته وجانياً عليها ، إنما الدافع الأعظم لذلك ، هو الغلاء الفاحش لأبسط إحتياجات المعيشة ، والرغبة في الأمن من خبايا المستقبل وتقلباته !!
إن هذا ما يُجبرهم ، عن غير رِضي ، لتحمُل الأكباد التي نالت منصحتهم ، ولجوئهم للتكسُب من أموال الدروس المنزلية المنظورة بعين الحاسد ، بعدما أقرت الحكومة الفاشلة بفشلها في محو منظومة الدروس الخصوصية ، وكذبها المستمر وهي تزعُم تعويض المعلم مادياً !
وكيف للمعلم أن يواجه مسئوليات الحياه القاسية بجنيهات قليلة ، إنه لو إستغني عن الدروس المنزلية ، لأرهقته الديون ولعاني المُر والفقر معاً ، إنها طامة كبري ، لو صار المعلم عبداً للمال .. حقاً إنني أتحدَثْ عن مأساة ، تحتاج لمواساه !!

التعليقات