لقد دامت أربعين سنة من الانتظار،كنت كلما أتجهز لهذه السفرية لم أجد نفسي مهيأة لها، وكنت أخاطب نفسي و أستخيرها من حين لآخر فلم أجدها على أتم الاستعداد للتوبة النصوحة والتقوى المبينة والمطمئنة لهذه السفرية؛ وغير متأكدة تماما من عدم الرجوع إلى المعاصي والذنوب من بعدها. حتى طال الزمن عليها فلمست منها الخضوع للسيطرة بدرجة ترجحها إلى التقوى تدريجيا ومساعدتي على التحالف و الابتعاد عن وسوسة الشيطان وغرور الهوى.
حينئذ، أعددت زاد اليقين لهذه السفرية، لأقف لأول مرة و أنا معتمرأمام رجل خلقه الله واصطفاه على ما خلق وما يخلق من بني جلدته، فكيف يكون هذا الوقوف؟ و أعطاه كل الصفات الحميدة التي أرادها لخلقه و لعباده الصالحين، فكيف تكون هذه النظرة؟ ومنحه الرسالة و النبوءة الخاتمتين لخلقه و الإمامة على الأنبياء و المرسلين قاطبة، الله أكبر؟.
فهذا كان شاقا علي و على نفسي عندما كنت متوجها (كنت أطلب من نفسي أن تعاهدني أن لا رجوع أبدا، أبدا و البدء في التوبة النصوح ) لدخول الباب رقم 16 إلى المسجد النبوي الشريف ومن ثم إلى الروضة الشريفة و أنا متأكد من إنني في رياض الجنة. يا الله ما هذا الانغماس الروحي و الجو و النفحة الربانية في تلك اللحظات. كيف أواجهه و أخاطبه؟ ماذا أقول في هذا الموقف؟ وكيف أتوجه له وكيف أجيد العبارات؟ إنها أسئلة كثيرة، وعبارات أكثر غمرتني.
- السلام عليك يا نبيا لله – السلام عليك يا اشرف خلق لله و أنا متيقن انه ردا علي.
- الحمد لله الذي أطال في عمري حتى أزورك و أسلم عليك
- الحمد لله الذي جعلني من أمتك و لم يجعلني مسيحيا ضالا أو يهوديا
مغضوبا عليه أو مجوسيا مشركا أو شيئا آخر من خلقه.
- الحمد لله الذي هداني إلى الصراط المستقيم و إتباع سنتك.
- السلام عليك يا صديق رسول الله
- السلام عليك يا من وافق رأيه كلام الله
- السلام عليكما يا من سلم الله عليكما من فوق السموات السبع
سبحان الله أحسن الخالقين، سبحان الله أحسن الخالقين، سبحان الله أحسن الخالقين
وعند ما نادى المنادي، من اليوم الرابع، احزموا أمتعتكم... وتجردوا من كل لباس و زينة، إنه الإحرام. و أنا أتهيئ للرحيل كنت أخاطب نفسي و أتخيل لو يكون هذا الثوب الأبيض الذي سألبسه هو أخر ما ارتاديه في هذه الدنيا و ماذا سأحمل معي من شيء؟ إلا ما أخلصته لله. و تذكرت حينئذ ذلك الرجل الذي عندما تهوم به نفسه يأتي بها إلى المقبرة ساعات وساعات حتى تهدئ و ترضى و تطمئن، الحمد الله الذي أطال في عمري حتى زرت ما كنت اشتاق إليه.
و أنا متوجه إلى الصرح الفريد الذي أراد الله به أن يكون أول بناء على الأرض قاطبة يجتمع فيه المسلمون و يعبدوا الله فيه العبادة الحركية المفروضة من السماء على لسان الخالق مباشرة لنبيه، و بإشراف خاتم الأنبياء والمرسلين... انه مسجد قباء...الحمد لله... و قد ورد فيه قول الرسول "ص": "من تطهر في بيته ثم أتى مسجد قباء وصلى فيه كان له كأجر عمرة"، كما ورد في صحيح البخاري وصحيح مسلم أن النبي كان يأتي مسجد قباء كل سبت ماشيًا أو راكبًا فيصلي فيه ركعتين.
شعرت بغمرة تكسوني من تحت ثيابي كأنني تائه. و أنا في هذه الحالة، نادى المنادي ثانية بعد ما أتمت الصلاة: الآن حان وقت التلبية »لَبَّيْكَ اللهمَّ! لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ«، و بدون انقطاع حتى باب السلام ان شاء الله بالبيت العتيق".... كلمات لست متعودا عليها سأحفظها ما دام الطريق طويلا، و أنا أرددها و أنظر إلى هذه الفيافي لأول مرة فإذا بلافتة مكتوب عليها من هنا "بدر" من الجهة اليمنى. وما أدراك ما "بدر". أول غزوة فرق الله فيها بين الحق والباطل. كان يخطر في بالي لو كنت في ذلك الزمان مهاجرا أو مقاتلا و شهيدا في سبيل الله.
و أنا ألبي كنت أرى أن الدنيا متاع الغرور و ما ينفع لا مال و لا بنون الا العمل الصالح و من كان قلبه سليما، ( الآية - [ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب ٍسَلِيمٍ ] - الشعراء 89 ) و هل يستطيع المسلم ان يتخلص من رغبات النفس و غرور الشيطان و مغريات الدنيا و أهوالها و يعزم بتأكد تام و يقين مبين انه زائل و ما ينفعه إلا ما أخلصه لله من عمل صالح (الآية-[ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ] - الحجر 99 - ) و انه في الآخرة من الأبديين. انه يقين صعب و لا يناله إلا ذو تقوى (الآية - [ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ] - محمد 17- ) إذا وصل الحال على هذا الاتجاه فأن هذا المسلم قد فاز فوزا عظيم.
إنه باب السلام من البيت العتيق، يا الله كيف يكون لي النظر مباشرة و لأول مرة لبيت الله، إنها أم القرى ، إنها بكة، إنها مكة ، إنها البقعة المقدسة على كل بقاع الأرض، انه البيت الذي لم يبنى من قبله بيت على وجه الأرض (الآية - [ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ] – آل عمران 96) و جعله أمنا بدعاء نبيه إبراهيم عليه السلام (الآية- [ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ] - إبراهيم 37- [ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْنًا وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعَاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ ] - البقرة 125) يا الهي إنها الحراسة الإلهية ورزق لا يستطيع رده بشر على وجه الأرض و ماء مسكوب لا تمنعه كل تقنيات العالم و نفحة ربانية لا مثال لها على وجه الأرض إلا في هذا البيت المعمور انه شعور يغمر كل مسلم خاشع محتسب.
هنا نادى المنادي مرة اخرى "هنا انتهت التلبية و بدأ الدعاء و التضرع للخالق، أكثروا من الطواف و الصلاة المفروضة إن أجرها بمئة ألف صلاة ما سواها.