لم يكن أمام الرئيس عبدالفتاح السيسي من خيار آخر غير التكشير عن الأنياب المصرية. هناك تهديدان مباشران تتعرّض لهما مصر أولّهما ليبيا وثانيهما سدّ النهضة الذي تبنيه إثيوبيا. أن تسيطر تركيا على معظم ليبيا مع ترك مناطق صغيرة لنفوذ القوات التي يقودها خليفة حفتر هو نهاية للدور المصري في الإقليم. أن تستمرّ إثيوبيا في بناء سدّ النهضة بغية الحصول على ما تريده من مياه النيل، من دون أن تأخذ في الاعتبار مصالح القاهرة، هو بمثابة اعتداء مباشر على ما يُعتبر شريان الحياة بالنسبة إلى مصر.
حصل استضعاف لمصر. أدّى ذلك إلى تجرّؤ تركي على الذهاب إلى ليبيا عسكريا. استطاعت تركيا مستعينة بأسلحة متطورة، بما في ذلك طائرات من دون طيّار، إلحاق سلسلة من الهزائم بالقوات التي في إمرة حفتر. هذا واقع لا يمكن تجاهله بعد النجاح التركي في فكّ حصار الجيش الليبي لطرابلس.
هناك نيّة تركية واضحة في الذهاب إلى أبعد من طرابلس ومحيطها وصولا إلى سرت ذات الموقع الاستراتيجي. لم تتردد تركيا في الاستعانة بمرتزقة سوريين أجبرت معظمهم على القتال في ليبيا في سياق حملتها العسكرية.
من الواضح أنّ الرئيس رجب طيب أردوغان استطاع في الفترة الأخيرة لعب أوراقه بطريقة جيّدة مستفيدا من الغطاء الأميركي من جهة، ومن كون تركيا عضوا في حلف شمال الأطلسي (ناتو) من جهة أخرى. لعلّ أكثر ما استفاد منه أردوغان تراجع المشروع التوسّعي الإيراني، وهو تراجع جعل طهران في حاجة إلى أنقرة لأسباب عدّة بينها نتيجة العقوبات الأميركية.
لم يعد في استطاعة مصر تجاهل هذا الواقع في وقت تجاوز الدور التركي، المستفيد من الدعم المالي القطري، ليبيا. في حال استمرّ التقدّم التركي في ليبيا بالاعتماد الواضح على قوى معيّنة بينها ميليشيات محسوبة على الإخوان المسلمين، لن يعود بعيدا اليوم الذي تصبح فيه تركيا، ومن خلفها الإخوان، على الحدود المصرية.
إلى إشعار آخر، تمثّل تركيا الإخوان المسلمين ولا يمكن وضع رجب طيب أردوغان خارج الإطار الإخواني.
لا وجود لشكّ بأنّ تركيا حققت مكاسب في سوريا. يبدو أن ذلك ليس كافيا بالنسبة إلى أردوغان الذي يعيش في وهم حلم استعادة أمجاد الإمبراطورية العثمانية، وهو حلم أقرب إلى الوهم من أيّ شيء آخر. استطاع الرئيس التركي إعادة ترتيب أوراقه، بما في ذلك العلاقة مع واشنطن حيث هناك تعاطف معه، خصوصا في البيت الأبيض. كذلك، ظهرت حاجة روسية إليه في ضوء الصعوبات التي تواجه الرئيس فلاديمير بوتين في سوريا. في أساس هذه الصعوبات العجز عن الاتكال على فعالية القوات التي لا تزال بإمرة بشّار الأسد من جهة والشعور الدائم بالريبة حيال الدور الإيراني القائم على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية من جهة أخرى. فوق ذلك كلّه، ليس أمام روسيا من خيار آخر غير أن تأخذ في الاعتبار مصالح إسرائيل وتوجهاتها، خصوصا في ما يتعلّق بمستقبل الوجود الإيراني في سوريا.
لا يمكن تجاهل أن في استطاعة مصر اللعب على وجود اختلافات تركية – روسية كان أفضل تعبير عنها إلغاء الزيارة التي كان مفترضا أن يقوم بها لأنقرة قبل أيّام وزيرا الخارجية والدفاع الروسيان سيرغي لافروف وسيرغي شويغو. تشير معلومات رشحت عن سبب إلغاء الزيارة في اللحظة الأخيرة، أو تأجيلها، إلى مطالب تركية معيّنة في سوريا وليبيا ليس في استطاعة روسيا الموافقة عليها.
من الإيجابيات أنّ الرئيس المصري قال كلاما موزونا يستند إلى معرفته بقدرات مصر ورغبته في تفادي المبالغات والمغامرات العسكرية من نوع تلك التي شهدتها أيّام جمال عبدالناصر. تحدّث السيسي عن أهمّية الجيش المصري وقدراته، لكنه شدّد على دوره “الدفاعي”. في نهاية المطاف، في حال تدخلت مصر في ليبيا ومنعت تركيا من الوصول إلى سرت، فهي تدافع عن نفسها قبل أيّ شيء آخر.
لدى مصر أوراقها، مثلما أنّ لدى تركيا أوراقها. من أوراق تركيا المال القطري ودعم التنظيم العالمي للإخوان المسلمين لها وكونها عضوا في الناتو، فضلا عن الغطاء الأميركي والانقسام الأوروبي في شأن ليبيا، خصوصا بين فرنسا وإيطاليا. من بين أوراق مصر الاختلافات التركية – الروسية التي في أساسها مبالغات رجب طيب أردوغان. هناك أيضا الدعم الفرنسي ودعم اليونان وقبرص المعنيتين مباشرة بالحدّ من الدور التركي الذي فرض اتفاقا للحدود البحرية مع حكومة الوفاق في طرابلس، وهو اتفاق يمس المصالح اليونانية والقبرصية.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّ مصر، التي أنقذت نفسها من براثن الإخوان المسلمين في مثل هذه الأيّام من العام 2013، تجد نفسها مجبرة على لعب دور في مجال التصدّي للمشروع التركي الذي يهدّدها والمستوحى من فكر أردوغان ومن تجربة المشروع التوسّعي الإيراني. مثل هذا التصدّي يتطلب مزيدا من التنسيق مع السودان الذي يعتمد أيضا على مياه النيل والذي سيتضرر أيضا من سدّ النهضة.
إضافة إلى ذلك كلّه، تستطيع مصر لعب دور فعّال في مجال منع تركيا من تطويقها من مكان آخر قريب منها. هذا المكان هو قطاع غزّة الذي تسيطر عليه حركة “حماس” التي هي جزء لا يتجزّأ من التنظيم العالمي للإخوان المسلمين.
الطبيعي أن تكون غزّة ملعبا مصريا وليس ملعبا تركيا وإيرانيا كما الحال الآن. ما هو أكثر من طبيعي، أن يكون القطاع منطقة نفوذ مصرية وليس “ساحة” تعدّ فيها مؤامرات ذات طابع إرهابي على مصر وأمنها الوطني ودورها الإقليمي المفترض.
ثمّة دعم عربي لمصر في مواجهة التحديات التركية التي شملت التدخل في اليمن وإقامة مناطق نفوذ لها في الصومال. هناك أيضا رهان على مصر. كان لتركيا في مرحلة معيّنة وجود في السودان الذي كان أيضا مكانا تتحرك فيه إيران في عهد عمر حسن البشير غير المأسوف عليه.
سيظلّ التحدي الأكبر قدرة مصر على إعادة بعض التوازن إلى المنطقة العربية في ظلّ ما سمته جامعة الدول العربية “تنمّرا” على العرب تمارسه تركيا وإيران وإثيوبيا. الأكيد أن ذلك سيعني دورا مصريا مختلفا في المنطقة، خصوصا في ليبيا وما هو أبعد من ليبيا. المهمّ في سياق هذا الدور وفي إطاره الابتعاد المصري عن أيّ أوهام بالنسبة إلى مستقبل النظام السوري الذي لم يعد لديه من دور يذكر غير الانتهاء من تفتيت سوريا لا أكثر..