أصبح واضحاً أن أزمة وباء «كورونا» امتحنت الحكومات بشكل قاسٍ بما فيه الكفاية، ما اضطر كل دولة في العالم أن تتخذ قراراتها المحلية بغض النظر عن الدول الأخرى، وأصبح من الصعب اليوم القول بقواعد أو إجراءات محددة، على أنها الصحيحة، والحكم على أخرى بالخاطئة.
لماذا أصبحنا أكثر إنصافاً، وأقل هجوماً على قرارات الفتح الجزئي للاقتصاد، عما كنا عليه في مارس (آذار) الماضي؟
السبب لا يعود فقط للضرر الذي لحق بالعالم جراء اختيار حالة الجمود وهجر مراكز الأعمال؛ لكن هناك أسباباً أخرى دفعت بالحكومات إلى تخفيف درجة الصرامة في الحظر على الأنشطة، وهي أسباب ذات وجاهة، على رأسها ما تم تحصيله من معلومات علمية حول طبيعة فيروس «كوفيد- 19» خلال الثلاثة أشهر المنصرمة. هذه المعلومات أنتجها الضخ الهائل للدعم المالي والبشري للأبحاث، وتبادل الخبرات لاستكشاف أسرار الفيروس، وسلوكه، والمتغيرات التي قد تكون أصابت محتواه الجينومي، واختلاف السلالات تبعاً للجغرافيا القارية، وكثير من البيانات التي شكلت صورة لا بأس بها عن الكائن الغازي المجهول.
لهذا السبب فهمنا رفض البريطانيين خطاب رئس الوزراء بوريس جونسون منتصف مارس الماضي، حينما أعلن اختيار ما يسمى منهج «مناعة القطيع». رفض الناس طبيعي كونه وسيلة لا إنسانية تنطوي على تضحيات سهلة بحياة مئات الألوف من البشر، منهم كبار السن. وكبار السن هؤلاء منهم الخبراء والمخضرمون في تخصصات ومجالات عمل لا تزال تشارك بقوة في عجلة الاقتصاد، إذن هي خسارة لمورد بشري من الصعب تعويضه. أما السبب العلمي لرفض هذه السياسة، فلأنها تعتمد كلية على فكرة أن ترك الفيروس يتفشى يعني أن تتشكل مناعة للأغلبية، كما حصل مع فيروس «الجدري»، وغيره من الأمراض التي يخلق الجسم ضدها أجساماً مضادة تمنع الإصابة به طوال حياة الفرد؛ لكن ثبت حتى الآن أن فيروس «كورونا» لا يعطي رد الفعل المناعي هذا في جسم الإنسان، وبالتالي خطاب جونسون وقتها كمن أطلق وحشاً في الشارع، وترك الناس يواجهون مصيرهم.
لم نكن نعرف الفيروس، كان مجهولاً حتى للمختصين في علم الفيروسات، كونه سلالة جديدة، والدارسون لعلوم الجينات يدركون ماذا يعني أن تتحور المادة الوراثية، وأن الكشف عن طبيعة التحور ونتيجته أمر يحتاج دراسة مكثفة.
دول كثيرة اليوم بدأت بالفتح التدريجي للاقتصاد، وسمحت بخروج الناس، وفتح المطاعم، كل دولة بدرجة معينة قيست على أساس تجربتها خلال الأشهر الثلاثة الماضية، وتقديرها لحجم الرعاية الطبية التي تستطيع تقديمها، مقارنة بعدد الحالات الحرجة المتوقعة. هذا السبب جعل بلداً مثل السعودية تقوم بفحص نشط وعام داخل الأحياء، ودعوة الناس لعمل الفحص، وبالتالي فإن عدد الإصابات الذي ارتفع بناء على ذلك لا يشكل خطورة كبيرة؛ لأن وزارة الصحة أعلنت أن 96 في المائة من أسرَّة غرف العناية المركزة شاغرة، وأن معظم هذه الإصابات لا تتطلب رعاية صحية في المشافي، ونسبة الوفيات حوالي نصف في المائة. وبالتالي نجحت الاحترازات، وفرض التباعد الاجتماعي، بشكل كبير في خفض نسبة الحاجة إلى العناية الحرجة التي كان من المتوقع أن تمتلئ بكبار السن وذوي الأمراض المزمنة، وكانت بشكل أساسي مصدر قلق.
تغيرت الأولويات الآن بعد تجربة صعبة مرت بها الدول، وبعد أن تشكل لدى الباحثين والأطباء معلومات جيدة جداً حول الفيروس، وإن لم تكتمل، وإن تضاربت بين جغرافيا وأخرى، لا يهم، كل هذا سيأخذ نصيبه من الدراسة والتمحيص. ما يهم اليوم هو أن علينا أن نتوقع أن عودة الحياة تدريجياً لا بد من أن تتزامن مع استمرار التباعد الاجتماعي؛ خصوصاً بالنسبة لأصحاب الأمراض المزمنة والمسنين؛ لأن الخطر عليهم لا يزال قائماً؛ لكنه يعتمد بشكل كبير على المسؤولية الاجتماعية للأسرة والأصدقاء.
في يناير (كانون الثاني) الماضي، ومع بداية الحديث عن الفيروس، قرأت مقالة علمية حذرت بشكل سبَّاق من أن خطورة الوباء تكمن في أولئك الذين يحملون الفيروس، ولا تظهر عليهم أعراض حادة تشعرهم بالمرض، لذا فهم نشطون ولديهم قابلية للحركة والاختلاط، وبالتالي نقل المرض دون أن يعلموا بأمر إصابتهم. هذا صحيح، ولا يزال الوضع كذلك؛ لكن في رأيي، أن لهذا الحالة وجهاً إيجابياً، وهو أن الفيروس لا يسبب الإمراض لمعظم المصابين به، أي أن ما نعرفه اليوم متأكدين منه نظراً لاتفاق معظم الباحثين، أن الارتفاع في نسبة الإصابات بعد خروج الناس من منازلهم وفك الحظر تدريجياً لا يشكل مخاوف كما كان في بداية الأزمة؛ لأن خط سير الإصابة أصبح واضحاً إلى حد كبير، ودرجة الخطورة المسببة للوفاة ليست كما كنا نعتقد، فالإنسان بطبيعته عدو ما يجهل، ويخاف مما يجهل.
بالتأكيد هناك دول تضررت اقتصادياً بشكل مؤلم؛ خصوصاً الدول النامية التي تعاني أصلاً من وضع اقتصادي هش؛ لكن من المهم أن نعرف أن قرارات فك الحظر والانطلاق للحياة من جديد ليست قرارات سياسية مجردة؛ لأن الحكومة التي تقرر ذلك هي من ستتحمل تداعيات قراراتها. كما لا يعني ذلك أننا عدنا لسياسة «مناعة القطيع»؛ لأن لا مناعة في أمصال المتعافين كما كنا نأمل؛ بل لأننا اليوم لسنا كما كنا في يناير الماضي. نحن اليوم نعرف أكثر، ولدينا وعي أكبر، مجتمعاً وحكومات.