بعد حرب مريرة مع القطب الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وإستنزاف كامل لكافة مواردها ونفوذها خلال حرب باردة حملت كل مراحل تكسير العظام جاء عام 1991 لكي يعلن عن إنهيار الإتحاد السوفيتى وأنتهاء الحقبة السوفيتية بلا رجعة، وهنا نظرت تركيا الى خريطة دول الإتحاد السوفيتي الذى بدأ أن يتفكك وأدركت أهمية ملئ ذلك الفراغ خاصة فى الدول المسلمة والتى كانت يوما جزء من أمبراطوريتها كازاخستان وأوزبكستان وأذرابيجان وكرغيزستان، وبتأكيد كانت تلك الدولة بتلك الفترة وبعد تلك الحقبة الصعبة فى أشد الحاجة لإعادة بنائها وتنميتها، وهنا لم تتأخر تركيا تجاه حضنها التاريخي والقومي والسياسي والإقتصادي تجاه تلك الدولة منطلقة نحوها عبر وكالة التنسيق والتعاون التركية المعروفة بأسم "تيكا" بعد أن تم الإعلان عن تأسيسها فى صباح يوم 24 يناير 1992 بموجب القرار الوزاري رقم 21124 للعمل على التعاون فى مجالات التنمية والأقتصاد والتعليم والإعلام والثقافة وتقارب الشعوب والمجتمعات وكل ما يندرج تحت مسمى "التعاون الناعم" لمساعدة الجمهوريات التركية الموجودة في وسط أسيا على إعادة تأسيس وتطوير وتأهيل نفسها مرة أخرى.
وقد أستمرت وكالة تيكا أو وكالة التنسيق والتعاون التركية تصب كل أهتمامها وتركيزها تجاه دول أسيا الوسطى فقط الى أن جاء جزب العدالة والتنمية الى سدة المشهد السياسي وتوليه زمام الأمور بتركيا حتى جائت نظرة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورفاقه الى وكالة التنسيق والتعاون ودائره عملها مختلفة تماما لنظرة المؤسسون للوكالة، حتى أن أقتنع الجميع بأن يتم توسيع دائؤة نفوذ وعمل الوكالة كي تشمل كافة الدول الإسلامية ودول الشرق الأوسط وأفريقيا بجانب دائرتها الأساسية بدول أسيا الوسطى والقوقاز، وهنا كان القدر يحضر لنا شخصا أخر شديد التأثير فى المشهد التركي الحالي بل ولا نبالغ لو قلنا وفى الشرق الأوسط برمته بعد أن كتبت أولى خطواته بالساحة السياسية بتوليه منصب مدير وكالة التنسيق والتعاون التركية بعهد حكومة حزب العدالة والتنمية التركي هاكان فيدان، بعد أن قام الرقيب بالقوات المسلحة التركية بعام 1999 بتحضير بحث الماجيستير بعنوان "مقارنة بين نظام الاستخبارات الاريكي والبريطاني والتركي".
وأشار فيدان في ذلك البحث لحاجة تركيا الضرورية لشبكة إستخبارات خارجية قوية تمتلك القدرة على الإنتشار فى كافة أرجاء المعمورة تعتمد على عدد ضخم من عناصر عالية التدريب، لكي يحمل عام 2003 تولى هاكان فيدان منصب مدير وكالة التنسيق والتعاون التركية تيكا لكي تتغير ملامح عمل الوكالة ودوائر نشاطها ونفوذها تماما، فبعد أن أنحصر عمل الوكالة بدول أسيا الوسطى بات عمل الوكالة يشمل كافة الدول الإسلامية ودول منطقة الشرق الأوسط والقارة الأفريقية، وبات عمل الوكالة أكثر تأثيرا من مجرد الإهتمام بأنشاء الطرق والكباري والسدود وأعمال البنية التحتية والمصانع والمدارس والمستشفيات والمساهمة فى المشاريع الخدماتية، والإهتمام بعمليات ترميم المتاحف والأثار مع الإهتمام الخاص بترميم كافة الأثار العثمانية بأى دولة فى العالم، بجانب رفع تقارير دورية مباشرة للحكومة التركية يوضح فيه خط سير العلاقات الخارجية التركية مع الدول التى تعمل بها وكالة التنسيق والتعاون "تيكا" وفقا للخط المبنية على عمل الوكالة وإسلوب القوى الناعمة.
ومع زيارة تلك الدول والتعامل مع شعوبها وقياداتها، عرف هاكان فيدان طبيعة تلك الدول وأفكار وعادات وتقاليد شعوبها، وهى الدول التى نفذت عليها حكومة حزب العدالة والتنمية فيما بعد سياسة التبشير بالعثمانية، وهو الأمر الذى تتطابق بشكل حرفي مع أفكار أحد أهم منظرى العثمانيون الجدد الأ وهو الفيلسوف أحمد داوود أوغلو رئيس الوزراء الأسبق والتى برزت افكاره ورؤيته نحو السياسة الخارجية للدولة التركية عبر كتابه "العمق الإستراتيجي" الذى الفه أحمد داوود أوغلو من 600 صفحة بعام 2001 أي قبل أن يصل حزب العدالة والتنمية الى الحكم مع نهاية عام 2002 وبداية 2003، وهو الكتاب المكون من ثلاث أجزاء، الجزء الأول حمل "عنوان الإطار المفاهيمي والتاريخي"، بينما حمل الجزء الثاني عنوان "الإستراتيجية المرحلية والسياسات المرتبطة بالمناطق الجغرافية"، والجزء الثالث والأخير الذى حمل عنوان "مجالات التطبيق الوسائل الأستراتيجية والسياسات الأقليمية"، وهو الكتاب الذى حمل رؤية المفكر والمستشار أحمد داوود اوغلو تجاه سياسة تركية الخارجية وسبل تأمين مصالح تركيا فى الداخل والخارج، وكيفية أعادة ترتيب أمور ووضع الدولة التركية، وكيفية حماية أمنها القومي فى ظل المتغيرات السياسية التى شهدها العالم بتلك الحقبة الهامة، وكيفية أخراج تركيا من دورها المهمش أثناء الحرب الباردة ونقلها الى بلد محوري مؤثر فى الأقليم ولاعب فعال فى كافة المعادلات السياسية والإقتصادية بل والعسكرية أيضا بأقليم الشرق الأوسط.
وبعام 2010 روجت قناة الجزيرة القطرية لكتاب "العمق الإستراتيجي" على نطاق واسع بعد أن ترجم الكتاب للغة العربية بواسطة الدار العربية للعلوم ومركز الجزيرة للدراسات بأصدار الطبعة الثانية للنسخة المترجمة للغة العربية فى عام 2011، وهى الفترة التى صدرت لنا قناة الجزيرة القطرية العديد من الأفلام الوثائقية والحلقات النقاشية حول الرئيس التركي وشخصيته حتى من كثرة تضخيم ما ورد ذكره بقناة الجزيرة وقتها تصور البعض أنها حلقات عن محمد الفاتح أو موسي بن نصير أو الحاجب المنصور محمد بن ابي عامر أو صقر قريش عبد الرحمن الداخل.
وتعمل وكالة التنسيق والتعاون التركية "تيكا" من خلال عدة مكاتب تنسيقية لها منتشرة بالعديد من دول العالم أبرزها أفغانستان، البوسنة والهرسك، كيرغيزستان، المجر، رومانيا، منغوليا، ألبانيا، الفليبين، مملكة الجبل الأسود، كوسوفا، مقدونيا، مولدوفيا، أوزبكستان، أذربيجان، كازاخستان، ماينمار، باكستان، بنغلادش، جورجيا، المكسيك، فلسطين، لبنان، و بالقارة الافريقية متواجدة بكلا من مصر، الجزائر، ليبيا، ناميبيا، إثيوبيا، الكاميرون، النيجر، تشاد، جيبوتي، كينيا.
ومن المعلوم أن هاكان فيدان مدير المخابرات التركية الحالي أستمر بمنصبه كمدير لوكالة التنسيق والتعاون التركية "تيكا" حتى عام 2007 بجانب عمله كمستشار لـ أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية وقتها ورئيس الوزراء السابق.
فادي عيد وهيب
الباحث والمحلل السياسي بشؤون الشرق الاوسط وشمال افريقيا