عبد الرحمن بدوي في بنغازي

السبت 16 نوفمبر 2019 2:36 م

الدكتور عبد الرحمن بدوي الفيلسوف المصري الذي وهب حياته للعلم وبالذات الفلسفة. خلق لذاته عالماً خاصاً أرضه وسماؤه وكل شيء فيه دنيا الفلسفة بكل تجلياتها وامتداداتها في العصور واللغات والعقول، من اليونانية إلى العربية والألمانية والفرنسية. أتقن سبع لغات، سافر عبرها في جبال الفكر الإنساني وسهوله، وطاف في رحاب ما أبدعه الفلاسفة. كانت حياته التي نشر مسيرتها في مجلد مذكراته عصارة سنوات طويلة من الغربة في المكان والزمان والمغامرة التي لا تتوقف يلج فيها ما أبدعه الإنسان عبر القرون المتعددة الأفكار والإبداع. وُلد في قرية شرباص سنة 1917 وحصل على ليسانس الآداب سنة 1938 من قسم الفلسفة بجامعة فاروق آنذاك. وبعد تعيينه معيداً بها حصل على الماجستير عن رسالته «مشكلة الموت في الفلسفة المعاصرة» بتقدير ممتاز. هكذا اقتحم مبكراً بفكره إحدى المشكلات الأزلية التي حازت جبالاً من الأسئلة الفلسفية التي لم تفارق عقول المفكرين والفلاسفة. في رسالة الدكتوراه كانت أطروحته بعنوان «الزمن الوجودي». من مشكلة الموت إلى الزمن الوجودي نسج بدوي حياته وكوَّن زمانه الخاص. لم يتزوج وعاش في عالم الفلسفة باحثاً ومترجماً ومؤلفاً متنقلاً في رحاب العلم بين جامعات العالم.
كانت ليبيا منذ بداياته محطة في توجهه السياسي. بعد أيام من إعلان استقلال ليبيا سنة 1951 شنَّ بدوي هجوماً على الدولة الوليدة ووصف الاستقلال بالمؤامرة البريطانية التي أضافت كياناً عربياً جديداً يدور في فلكها ويأتمر بإرادتها. المفارقة، أنه سيأتي يوماً إلى تلك المملكة ليقوم بتدريس الفلسفة بجامعة بنغازي في العهد الملكي، ويجد كل الإكبار والتكريم ويعرض أفكاره بحرية وبلا رقيب. في شهر أبريل (نيسان) سنة 1973 يعلن الراحل العقيد معمر القذافي الثورة الثقافية، ويتم اعتقال عبد الرحمن بدوي مع مجموعة من المثقفين، وينقل من شقته وتصادر محتوياتها التي تتضمن كتبه وبحوثه ومحاضراته، ويحجز في أحد مراكز الشرطة ثم ينقل إلى السجن في بنغازي.
الباحث والمؤرخ الليبي الكبير سالم الكبتي الذي يُعد مكتبة شاملة للتراث والتاريخ الليبي، وأصدر الكثير من الكتب عن حلقات متداخلة من مسيرة الأدب والسياسة والفن في ليبيا، أصدر كتاباً بعنوان «عبد الرحمن بدوي في بنغازي - المحاضرة الضائعة»، اشتمل الكتاب على محطات في مسيرة الفيلسوف بدوي وكتاباته. قال الدكتور بدوي في كتابه «سيرة حياتي»: «ألقيت محاضرتين عامتين، الأولى في ديسمبر (كانون الأول) سنة 1967 بعنوان (تأملات في الحضارة العربية) والثانية في باريس سنة 1971 بمناسبة مرور خمسة عشر عاماً على إنشاء الجامعة الليبية، وعنوانها (فكرة الجامعة ورسالتها)، وقد ضاع نص كلتيهما فيما استولت عليه الشرطة الليبية من كتبي في أبريل سنة 1973».
لم يعلم الدكتور بدوي أن محاضرته التي ضاعت وتحسَّر عليها قد حفظها الأستاذ سالم الكبتي تسجيلاً صوتياً وكتابة وقد نشرها في الكتاب الذي أصدره بعنوان «عبد الرحمن بدوي في بنغازي»، وتضمن أيضاً مقابلة أجراها الصحافي بكر عويضة ونشرت في صحيفة «الحقيقة» التي كانت تصدر في بنغازي.
السؤال: لماذا استُهدف بدوي وجرى اعتقاله في بنغازي، ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد تدخل مباشر من الرئيس المصري الراحل أنور السادات؟ هو لم يكن رجلاً سياسياً وعُرف بعزلته وتفرغه للدراسة والبحث والتأليف والتدريس، ولم يندمج في الحياة العامة، فهل كانت تلك المحاضرة الضائعة هي الخيط الذي قاده إلى السجن؟
لقد تناول في تلك المحاضرة تأملات في الحضارة العربية، وتحديداً بين القرن الثاني للهجرة والقرن السادس. كان محور المحاضرة، الانفتاح الحضاري العربي على سائر تيارات الفكر البشري في ذلك الزمان، واستعرض تفاعل المفكرين العرب مع الفلسفات الإنسانية شرقاً وغرباً وازدهار الترجمة، وإتقان المفكرين والفلاسفة العرب للغات الأجنبية، وقال بالنص: إنني أستطيع أن أقرر أن التراث اليوناني لم يترجم إلى لغة أخرى من اللغات بمثل ما ترجم إلى اللغة العربية. وتعرض الدكتور بدوي في تلك المحاضرة إلى بعض المفكرين العرب الذين وصفهم بالرجعيين المعارضين للتفاعل مع التراث اليوناني. ووقف في محطات تاريخية وفكرية وسياسية أخذ فيها العرب وقدموا للفكر الإنساني. واختتم محاضرته بقوله: وعلى هذه النغمة من الحرية واستقلال الفكر أودُّ أن أختم هذه التأملات، ولقد يقول البعض منكم إنني استندت كثيراً وأساساً إلى أحوال كبار المفكرين المسلمين، وهؤلاء على كل حال لا يمثلون غير الصفوة الممتازة، لكنني انبِّه أولاً إلى أن هؤلاء هم الذين يمثلون ضمير الحضارة العربية أولاً، وإنه ليس لديهم شواهد نستند إليها في معرفة الروح العربية في ذلك العصر غير أقوال هؤلاء، والجماهير إنما يترجم عنها وعن نفسيتها كبار المفكرين هؤلاء.
أصدر بدوي كتباً عن تاريخ الفلسفة في ليبيا أثناء عمله في الجامعة الليبية ببنغازي، وخصوصاً القورنيائية (نسبة إلى قورينا) التي كانت مركزاً للفلسفة في العهد الإغريقي، كما حقَّق كتباً أخرى.
تعَّددت التفسيرات للدوافع التي كانت وراء اعتقاله، هناك من قال إنه حُسب على التيار الوجودي الذي وصم بالإلحاد في ذلك الزمن، وأن الدكتور عبد الرحمن بدوي نشر فلسفة ذاك التيار بين تلامذته الليبيين واتسعت دائرتهم، وأصبحوا يمثلون قوة فكرية لها توجه سياسي مضاد لتوجهات ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) القومية العربية.
لقد بدأت علاقة الرجل بليبيا مبكراً منذ الأيام الأولى لإعلان استقلالها مشككاً في هوية الكيان الجديد، الذي وصفه بالصناعة البريطانية، فبعد إعلان استقلال ليبيا بأسبوع نشر بدوي مقالاً في صحيفة «اللواء الجديد» الصادرة يوم الاثنين 31 ديسمبر (كانون الأول) 1951 بعنوان «ليبيا وليدة المناورات الاستعمارية»، قال فيه إن الدولة الناشئة ولدت مشوهة الاستقلال مَقضياً عليها منذ البداية، وإنها ستكون تحت الاحتلال البريطاني والأميركي والفرنسي، وناشد في نهاية المقال الجامعة العربية عدم قبول ليبيا عضواً فيها. لقد كان بدوي معارضاً شديداً للوجود البريطاني في مصر كارهاً للاستعمار، ولم يتعايش مع الحقبة التي حكم فيها الجيش المصري بلاده بعد إسقاط الملكية. لقد جاء إلى ليبيا في الحقبة الملكية أستاذاً بارزاً يشار إليه بالبنان، يتابعه المثقفون وينشدون إلى فكره وفلسفته، وتحول عدد من تلامذته إلى مريدين ينهلون من دفق علمه الغزير، لكن علاقته القلقة التي بدأت مع ليبيا مبكراً انتهت بمشهد حزين.
من الجامعة إلى السجن إلى مغادرة البلاد مبعداً.

التعليقات