الدائرة الكربونية!

الأربعاء 13 نوفمبر 2019 3:20 م

كانت رواية لورانس سوندورز «ملف الغد» أو «The Tomorrow File» هي أول ما قرأت بعد ذهابي إلى الولايات المتحدة للدراسة في سبتمبر (أيلول) 1977. كان قد مضى عامان منذ نشرها في عام 1975، وضمها إلى عائلة القصص المثيرة للخيال العلمي التي تحصل على ما سُمِّي «الأكثر مبيعاً»، والتي جرت أحداثها في عام 1998، أي قبل نهاية القرن والألفية بعامين فقط، وهو ما بدا في ذلك الوقت بعيداً جداً.
وكما هو الحال في مثل هذه الرواية، فإن فيها كثيراً من الخيوط المتشابكة بين السياسة والاقتصاد والعلوم والعواطف، وهكذا أمور يجري حدوثها في عصر عشناه بالفعل، وعبرناه الآن بأكثر من عقدين من السنوات، تحقق فيها ما تحقق من أمور كانت «مستقبلية» وقتها، وبعضها الآخر نعرف يقيناً أنه ليس أضغاث أحلام، وإنما في طريقه إلى التحقيق.
ما كان لافتاً للنظر بشكل خاص لشاب قادم من العالم العربي، زاوية في الأحداث تتعلق بالنفط، ليس على طريقة الماضي الذي جعله محركاً للثورة الصناعية، ومساهماً في انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وضرورياً لحركة البشر بعد أن باتت السيارة عنواناً على عصر بأكمله؛ ما كان جديداً هو أن النفط فيه ما هو أكثر من قيمة الاحتراق المولدة لطاقة تسبب الحركة؛ فجوهر النفط أنه مادة «كربونية»، لا أن «الكربون» هو أساس المادة ذاتها، وبالعلم يمكن أن يصير غذاء. كان ذلك نقلة كبيرة في التفكير وقتها تهدد مصالح «الأشقاء السبعة» المهيمنين على صناعة النفط في العالم، كما أنها تهدد توازنات القوى العالمية (كانت حرب أكتوبر «تشرين الأول» 1973 غير بعيدة عن الذهن عندما كُتبت الرواية!).
ما حدث في الواقع خلال العقود التالية أن قصة النفط تغيرت كثيراً عما جرى في الرواية؛ لأن الدول المنتجة امتلكت ثرواتها الطبيعية، وبات الحديث عن «أوبك» حديثاً عن «كارتيل» مهيمن.
لم تعد قصة النفط هي المساهمة في انتشال الملايين من الفقر، وإضاءة المدن، وحركة الناقلات والمواصلات، وأنها كانت وراء الإنتاج الزراعي، والصناعي بالطبع، وحتى الملاهي والجامعات. ما أصبح عليه النفط هو تحمل المسؤولية الخاص بفناء كوكب الأرض، نتيجة الاحتباس الحراري الناجم عن احتراق الوقود «الأحفوري» بأشكاله المختلفة. الصورة التلفزيونية والسينمائية للنفط الآن تدور حول الزلازل والأعاصير، وهجرة سكان الكوكب إلى كواكب أخرى، توجد فيها مخلوقات متوحشة.
لحسن الحظ أن هذه القصة لم تعد وحدها في الساحة، ولا المناظرات حول الطاقة الأحفورية والطاقة المتجددة، فقد بات هناك فكر جديد للنظر في قضايا الطاقة؛ بحيث تكون «الطاقة الكربونية» مساهمة في التنمية المستدامة، ودون إضرار بالكوكب الذي نعيش فيه.
«ملف الغد» بات ممكناً أن يكون «الآن»، والفكرة تأتي من المملكة العربية السعودية المؤهلة تماماً لكي تقود في هذا الطريق. فالمملكة واحدة من رواد الطاقة العالميين، وتنتج أكثر من 10 ملايين برميل يومياً، ولديها نحو 267 مليار برميل من الاحتياطيات. هي واحدة من أكبر 10 منتجين للغاز، مع أكثر من 9000 مليار متر مكعب من احتياطيات الغاز المؤكدة. ومن هذا الدور المحوري في عالم الطاقة، تقدمت المملكة بمفهوم الاقتصاد الدائري للكربون، وهو إطار تتم فيه معالجة انبعاثات الكربون من جميع القطاعات النفطية، وجميع أنواع الغازات، من خلال الضغط وإعادة الاستخدام، وإعادة التدوير والإزالة. الفكرة هنا هي محاكاة ما يحدث في الطبيعة؛ حيث يمكن استعادة توازن دورة الكربون في حلقة مغلقة، تعيد تدوير واستخدام ما خرج وانبعث، وتعيده في مسار الحياة والاستخدام من جديد. مثل ذلك يوفر طريقة جديدة لمواجهة تحديات التنمية المستدامة التي تقدر جميع الخيارات، وتشجع جميع الجهود المبذولة، للتخفيف من تراكم الكربون في الجو، مع تسهيل النمو الاقتصادي العالمي في الوقت ذاته.
المسألة ببساطة هي أن العالم لا يستطيع الاستغناء عن النفط، والطاقة الكربونية بوجه عام؛ لأن مصادر الطاقة المتجددة من رياح وشمس لا تحقق التوازن المطلوب بين الاحتياجات والاستخدامات الإنسانية، في عالم تحرك في جميع أرجائه وسكانه الأكثر من سبعة مليارات نسمة، للتنمية والتقدم. ومن ناحية أخرى، فإن هناك قطاعات اقتصادية مهمة في العمليات الصناعية والنقل يصعب استبعاد الطاقة الأحفورية منها؛ خصوصاً إذا ما تم تدوير انبعاثاتها من الكربون. والحقيقة أن هناك سوابق لهذا الأمر، فقد جرى استخدام غاز الميثان الناتج عن إنتاج النفط في أغراض مدنية؛ وفي عام 1980، قامت المملكة باستعادة تلك الغازات المرتبطة بالنفط، واستخدامها لإنتاج مجموعة متنوعة من المواد الكيميائية. وقد مكن هذا صناعة البتروكيماويات من خلق آلاف من فرص العمل، والمدن الصناعية، والمساهمة في نمو الناتج المحلي الإجمالي، كما غذت محطات توليد الطاقة ومنشآت تحلية المياه. وقدر أنه تمت إزالة أكثر من 2.8 غيغاطن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون من الجو، منذ ذلك الحين.
وفي الواقع، تقوم السعودية، وفقاً لما جاء في مؤتمر مبادرة «الاستثمار المستقبلي» بإصلاح نظامها البيئي بالكامل؛ حيث تقوم حالياً بتشغيل أكبر محطة لاحتجاز الكربون واستغلاله في العالم؛ حيث تصل إلى تحويل نصف مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً، إلى منتجات مثل الأسمدة والميثانول. وتدير أيضاً واحدة من أكثر المناطق تقدماً لاستخلاص ثاني أكسيد الكربون، والتي تلتقط وتخزن 800000 طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً. علاوة على ذلك، توجد لدى المملكة خطة لنشر بنية تحتية إضافية، لاحتجاز الكربون واستخدامه وتخزينه على مستوى المملكة.
مثل ذلك يمثل ثورة كبرى في التعامل مع واحدة من أهم الإشكاليات المعاصرة، ما بين حق كل شعوب العالم في التقدم والتنمية المستدامة من ناحية، واستحالة حدوث ذلك دون تهديد لسلامة الكوكب من ناحية أخرى. حل هذه الإشكالية لا يكون إلا من خلال استلهام الطبيعة التي تلعب دوراً مهماً في إزالة الكربون، كجزء من اقتصاد الكربون الدائري. وإدراكاً لذلك فإن المملكة تتخذ إجراءات لتحقيق هذه الأهداف، بما في ذلك توسيع الغابات والمزارع، ومروج الأعشاب البحرية والشعاب المرجانية في كل من البحر الأحمر والخليج العربي، وهو مجال يمكن اتساعه إلى أبعاد جديدة، إذا ما جرت فيه مستويات أعلى من التعاون الإقليمي والدولي. ويبدو أن المملكة سوف تحاول أن تطرح الأمر على مؤتمر الدول العشرين في العام المقبل، عندما ينعقد في السعودية.
مما هو متاح من معلومات حول تطبيقات «الدائرة الكربونية» في عالم اليوم، واعتمادها على ما عليه الحال في الطبيعة، والجهود السعودية في استخدامها بتطبيقات متعددة، فإن هناك جهداً كبيراً مطلوباً للإعلام العربي، عن هذه النقلة النوعية في التعامل مع واحدة من أهم إشكاليات العالم المعاصر كما أسلفنا. فالشائع دائماً أن العرب مستهلكون دائماً للأفكار والتكنولوجيا، وإذا ما استخدموها فإنها ليست دائماً لخير البشرية. أظن أنه قد آن الأوان لمثل هذا التفكير أن يتغير.

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر