المجدُ عند الغانياتِ رغيبة يُبغى
كما يُبغى الجمالُ ويعشقُ
زُفتْ إلى ملكِ الملوكِ يحثها
دينُ ويدفها هوى وتشوقُ
هكذا صور الشاعر أحمد شوقي ابتهاج عروس النيل التي يُلقى بها في اليم وهي تغرق في قاع المجد والموت الفريد. وقف الشاعر أحمد شوقي في قصيدته الطويلة عند تلك الحالة الإنسانية الفرعونية القديمة التي تحول المأساة إلى قمة الاحتفال، وكان يستعرض صفحات الحضارة المصرية، أجاب عن سر عظمة الإغراق العمدي الذي تتسابق عليه الغانيات الحسناوات بالقول:
وإذا تناهى الحبُّ واتفق الفدا
فالروحُ في باب الضحية أليقُ
كثيراً ما تكون المسافة بين الشهادة والانتحار معدومة.
ما يبدو غريباً عند فرد ما يكون رائعاً، وما يكون شنيعاً عند هذا يكون روعة الروعة عند آخر. تلك هي قوانينُ الصيرورة في الوجود. الخيرُ والشرُ، لا يمثلان التناقضَ دائماً، وكذلك الشجاعة والجبن، قُل الشيء نفسه عن الكرم والبخل والفضيلة والرذيلة، فالتعري عند بعض الأقوام سلوك اجتماعي وأخلاقي معتاد محبب ولا يستدعي أي نفور.
الثقافة وحزم القيم الاجتماعية والأخلاقية، ليست دائماً كتلة حجر صماء، للزمن فعله، والتطورُ له أكثر من توجه واتجاه.
لقد اعتقد البلاشفة الشيوعيون اعتقاداً موصداً أنهم حققوا قمة الأمل الإنساني بوصولهم إلى السلطة، وأن النعيم الأرضي صار كياناً معيشاً، وهكذا فكر الفاشيون في إيطاليا والنازيون في ألمانيا، وقبلهم قال المستعمرون إنهم قد ساقوا أولادهم الجنود كي يموتوا من أجل زرع الحضارة والتقدم في أراضي البلدان المستعمَرة، وفي كل تلك الأطوار كان هناك من يغني لتلك الأفعال.
قلتُ لكِ كلَ ذلك ونحن نقرأ ألواح نفوسنا، فكلُ نفسٍ لوح، وكل يوم له أقلامُه، الزمن يقارع الأزمان الصغيرة التي تنشب فينا أشياءها، من الذي يحمل الآخر فوق كاهله، نحنُ أم الزمن؟
هذا السؤال إذا عبأنا عقولنا للإجابة عنه ستنتفض الخطوات وسترش زعازع الأيام غبارها الأصفر فوق خطواتنا، سيصاب النور بكآبة الأثقال. لنمضِ، وليكن الزمانُ رفيقاً صامتاً، لِمَ نوقظه؟! نحن في مملكته، وهو الملك الأبدي، يكفينا أنه قد تفضل علينا بالركوب في سفينة أيامه.
من لونكِ رأيُتك، من روحِك عرفتُ أن المسارَ قصيدة، وأنَّ الخطو همساتُ وحي. كانت الخطواتُ تقاسيم معزوفة الحنان، والأنفاس ترافقنا نحو حديقة الشجن الباردة. كم جمعتُ خيوط الألحان، وضعتُها فوق نهديك فغنَّت. لامست قطرات ضوء الفجر تعالت تنهيداتها، غنى الفجر عندما ترجل السنا الأبيض، غنيتُ، غنيتَ معي، غنى الفجرُ والخطوُ:
فضلت أعيش بقلوب الناس
وكل عاشق قلبي معاه، شربوا الهوى
وفاتولي الكأس من غير نديم أشرب وأيَّاه
عزَّتْ جمالك فين من غير ذليل يهواك
وتجيب خضوعي منين
ولوعتي في هواك.
كيف تنبت للضوء شفاه؟ كيف تتدفق الأنغام لمعات قبس تصدح؟! والخطواتُ رنينُ حديثٍ حميم، غبتَ في رعشاتِ الخطواتِ، صارت الخطواتُ نديماً تشرب ــ وأيَّاه ــ كأس الهوى، والمسافة نغماً يتهادى يلامس الخطوات، لا شيء يريد أن يفارق شيئاً. الخطوات، والمسافة والنغم وأنفاس الغرام، غلالة هوى تمدُّ همسها على حنين حي، الغياب هو الحضور الذي يصدحُ في اهتزاز الوجد اللذيذ.
لمَ نبكِ؟ البكاءُ لعبة تغييبٍ عبثية، نسكبُ فيها حنيناً نبتغيه لكنه يعاند، لا يأتي، إذا جاء المُشْتهى غادر الحنينُ إليه. تسيحُ الخطواتُ فوقَ الخفقِ التائه، تملأُ وجوداً متحركاً، للوجود ـ أناه ـ أناة ـ لها أقفالها، وكل ما هو ثابت أو متحرك وجود. لكن المشاعر هي أكثر أنواع الوجود تعقيداً وتركيباً. لا نعرف أبوابها، ولا نمتلك مفاتيحها، لا نستطيع أن نخلقها، بالكاد نستطيع اكتشافها، نكتشفها من خلال آثارها فينا. هل للحب خرائطُ تهدينا إلى الوصول إليه؟ السؤال نفسه نلقيه على الكراهية. تلك هي قوى الأسرار التي تنبت «الصيرورة»، صيرورة الحياة. كلما غبنا في الخطوات نحو الأشياء والأفعال، تجلت فينا، تجلت مشاعر وانفعالات، وأفعالاً، في الإدراك يكون الحضور، تنقشعُ أدخنة الغياب وتستعيد النفسُ بوصلة الوعي، الإدراك هو التطابق بين مكونات الحركة والإرادة، تتنزل المشاعر إلى واقع الحركة، الخطو وتندفع الحياة.
كيف يتكدس حطبُ الطموحِ ليُذْكي نارَ الجهدِ والكد؟ وكيف يتفاوت من فرد إلى آخر؟ الطموحاتُ شتى في المال وفي السلطة، في الإبداع في المجال الرياضي في الطقوس الدينية، حيث يتحول الزهدُ أحياناً إلى لذة تجعل الاستغناء عن اللذائذ متعة المتع. كيف يكون الموتُ اختياراً مقدساً يرحل له الفردُ؟ لِمَ يفجِّرُ نفسه ليقتل آخرين لا يعرفهم ولا يعرفونه، لا ثأر ولا تصفية حساب من أي نوع؟ هل هناك خلل في المنطلق أم في المقصد؟ هل يمكن أن نضع ذلك في خلايا الطموح أم في خلايا الخلل والمرض؟ وبأي حطب أوقد هذا القاتل المقتول طموحه؟