التسامح في الإمارات.. حقيقة مؤكدة

الخميس 12 أبريل 2018 2:44 ص

تجربة التعايش في الإمارات تنبع من ثقافة عميقة وتراكم تاريخي على غرار الاعتزاز بالانتماء والهوية والاستعداد الجماعي لقبول المختلف.

هل تتجه البشرية اليوم على المستوى العالمي والمحلي، الحكومي والشعبي، الجماعي والفردي، المنظم وغير المنظم، إلى المزيد من الإرهاب والكراهية والحرب أم إلى التسامح والمحبة والسلم؟

هذا السؤال يمثل إشكالية لجميع الخبراء في كل مجالات الحياة، ومعرفة إجابته والبناء عليها لإصدار أحكام أو توجيه المجتمعات والتأثير في أصحاب القرار تشي بحال من المشاركة الجماعية لمواجهة الأمراض السياسية بالتحديد، تماما مثلما يعمل الأطباء من أجل الوصول إلى أدوية لعدد من الأمراض، التي تحصد اليوم أرواح الملايين من البشر.

إذا أبعدنا من السؤال السابق مسألتي السلم والحرب، كونهما تشكِّلان معا “حرفة بشرية” منذ القدم، ولأنهما ذاتا صلة بالتعاون والصراع من أجل البقاء، وأيضا لأنهما يتحققان من خلال رؤى وتوجهات وقرارات وأوامر القادة السياسيين والعسكريين، فإن السؤال سيتركز على توجه العالم نحو التعايش والتسامح، أو نحو الكراهية والازدراء.


البديل الموضوعي للتشدد والتطرف والغلو والكراهية هو إشاعة قيم التعايش واحترام الآخر المختلف دينيا أو طائفيا، والحديث عن ضرورة مقاومة الإرهاب والتطرف هو أيضا بحث في سبل إشاعة التسامح. ولئن تعد الدعوة إلى إشاعة هذه القيم في هذا الظرف الموسوم بارتفاع منسوب العمليات الإرهابية، ضربا من الترف الفكري إلا أن تجارب كثيرة في العالم أثبتت أن ذلك ممكن، بل ضروري للتخلص من التوتر الناتج عن صعود الأفكار المغالية

هنا، ومن خلال الملاحظة من جهة، ومن خلال العودة إلى الأرقام من جهة ثانية، فإن هذه المعطيات تكشف عن زيادات واضحة في حالات الكراهية، وتوسع في رفض المهاجرين، وانتشار فكر سياسي على المستوى العالمي يدعو صراحة وعلنا إلى رفض الآخر.

لكن مع ذلك كله لا يزال البشر يتحركون، بصفة شرعية أو غير شرعية، متخطين سلطة القوانين، والحواجز الحدودية، وهي حواجز أقيمت في الأنفس أولا.

إذن التسامح موجود في كل دول العالم، بنسبة أو بأخرى، وإذا تعمقنا في الفهم فسنجده يشغل مساحة كمية عددية أكبر من مساحة الكراهية، لكن هذه الأخيرة تستولي على مساحة الكيف، وتلك هي المشكلة التي تواجه دول وشعوب العالم.

وقد تنبّهت بعض الدول لذلك ومنها دولة الإمارات العربية المتحدة، فشنت حربا على الكراهية، محاولة منها لتوسيع مساحة الكيف لدى التسامح لتساند جانبه العددي، وبذلك تحقق توازن المعادلة، التي عجزت عنها الكثير من دول العالم، بما فيها تلك التي تعمل جاهدة من أجل نشر التسامح داخلها، والسبب، في الغالب، أنها تقيم السلم في الداخل، وتشن الحروب وبأساليب مختلفة في الخارج.

التجربة الإماراتية جديرة بالمتابعة والدراسة، ليس فقط لأنها تؤسس لنوع من العلاقة السليمة في الداخل خاصة، وما يتبعها من تأثير في العلاقات الخارجية والدولية، ولكن لوجود إصرار على ابتكار أفكار إيجابية وتصديرها، على النحو الذي تحدث عنه الشيخ محمد بن زايد في عدة مناسبات.

والسؤال هنا: هل الإمارات قادرة على القيام بدور حضاري وإنساني يتناسب مع حجمها الجغرافي وعدد مواطنيها، عجزت عن القيام به دول أكبر وأقوى وأعمق تجربة في هذا المجال؟

بكل تأكيد الإمارات قادرة على ذلك، وستحقق ما عجز عنه الآخرون، أولا لأنها تملك ميراثا تاريخيا في مجال التسامح، وثانيا لأنها صاحبة تجربة في جمع البشر ضمن فضاء من الأمان الجامع، وثالثا لأن رؤية قيادتها تسابق الزمن، عبر سياسة وقائية مبكرة، أثبتت الوقائع صحتها، ونحن هنا لا نتحدث عن دولة أكثر وعيا من الدول الأخرى، وإنما قد تكون أكثر إدراكا للمخاطر، مع إصرارها على أن تكون مميزة على المستوى العالمي، وليست شريكة فقط في صنع السياسات والقرارات على المستوى الدولي.

قد يواجه القارئ العربي عجزا في فهم التجربة الإماراتية في كل المجالات، وخاصة ما يتصل منها بالتسامح، إذا لم يعايشها عن قرب، بل إن بعضا ممن أقاموا، كثيرا أو قليلا، في دولة الإمارات لا يزالون تحت وطأة الأفكار المسبقة التي جاؤوا بها، أو متأثرين بصعوبات حياتية عانوها هناك، أو لأنهم دخلوا في مقارنات بين دولهم الأم والإمارات، فبخسوا هذه الأخيرة حقها بقصد أو من دونه، لذلك ولفهم تلك التجربة، فإنه لا بد من المتابعة والقراءة العميقة والمعايشة، والإمارات ليست دولة خالية من الأخطاء، وقادتها ومسؤولوها لا يقدمونها على هذا النحو أبدا، بل إنها تعمل على الاستفادة من أخطائها.

لدولة الإمارات ميراث تاريخي في مجال التسامح، لأنها صاحبة تجربة في جمع البشر ضمن فضاء من الأمان الجامع

ولذلك فهي وجه عربي مشرق، متميز في محيطه، وليس فقط مقارنة بدول المركز والأطراف العربية الأخرى، وهي على صعيد الممارسة تمثل فخرا واعتزازا وصمودا للعرب جميعهم خاصة في زمن الانتكاسات الكبرى، أو على الأقل هذا ما أراه، مع تحمل شخصي لتكلفة المسؤولية الإعلامية والتاريخية لكل ما ورد في التحليل السابق.

وبالعودة إلى موضوع التسامح، وهو وإن بدا موضوعا قيميا وأخلاقيا وحضاريا متداولا، فإن البعض يراه حالا من الضعف، لأنه لا يمكن أن يتسامح الضعيف مع القوي، ما يعني أن التحليل السابق عن الإمارات هو واحد من اثنين: إما طرح للزيف وللأباطيل عن رؤى وتصورات ووقائع هي مجرد أوهام تصدرها دولة الإمارات، وتأتي ضمن “البروباغندا” للدولة، وإما أن السياسيين والإعلاميين والكتاب، بدافع ظاهر أو خفي، وبما قد يحققونه من منافع مباشرة، يروجون لتسامح غير موجود أصلا، وباختصار: أنّى للإمارات أن تعتمد سياسة التسامح، وهي تنتمي لأمة ضعيفة ومفككة؟

إن ربط دولة الإمارات بالأمة العربية هو حقيقة وضرورة، حين يتعلق الأمر بالانتماء والهوية والثقافة والعمق التاريخي، ولكن لا وجود لهذا الربط حين يكون الحديث عن الجبهة الداخلية، وعن ميراث السلطة والحكم، وعن إنتاج وتصدير أفكار جديدة، وعن قابلية الشعب للتسامح وتجاوبه مع رؤى حكامه وقادته.

إذن الدعوة إلى التسامح في دولة الإمارات ليست ضربا من الدعاية ولا نوعا من الوهم، بل هي حال من القوة لجهة فرض الدولة لمشاريعها الإنمائية ولتحديد علاقة المتواجدين على أرضها، مواطنين ومقيمين، ولإثبات قوتها على الأرض أولا، وفي تطبيق القانون ثانيا، وفي عالم الأفكار ثالثا، وفي تقديم النموذج الفاعل عالميا رابعا.

من ناحية أخرى فإن التسامح ليس وليد اللحظة الراهنة في الإمارات، بل هو نتاج ثقافة عميقة، وتراكم تاريخي، وتجارب في التعامل مع الآخر برا وبحرا.

التسامح في الإمارات مؤطر قانونيا منذ أصدر الشيخ خليفة بن زايد، رئيس الدولة، مرسوما بشأن مكافحة التمييز والكراهية

ذلك هو التسامح في الماضي، على النحو الذي نقله إلينا تصورا وعملا الشيخ زايد، متأثرا في ذلك بثلاثة عوامل كان لها عظيم الأثر في ترسيخ قيمة التسامح عنده، وهي: الفطرة، والتربية، والثقافة، كما ذكر الدكتور فاروق حمادة، المستشار في ديوان ولي عهد أبوظبي، ومدير جامعة محمد الخامس بأبوظبي، والذي أشار أيضا إلى “أن الشيخ زايد استطاع أن يؤسّس نموذجا ملهما للتسامح، يمثل مصدر إلهام للعالم أجمع، وهو النموذج الذي تسير عليه القيادة الرشيدة في الإمارات وترسخه؛ لأنها تدرك أهمية ترسيخ قيم التسامح والتعايش المشترك، في مواجهة نزعات التشدد والكراهية التي تنتشر في أرجاء المنطقة والعالم”.

التسامح في دولة الإمارات مؤطر اليوم قانونيا منذ ثلاث سنوات، وتحديدا منذ أصدر الشيخ خليفة بن زايد، رئيس الدولة، مرسوما يتمثل في القانون رقم 2 لسنة 2015، بشأن مكافحة التمييز والكراهية، والذي يقضي بتجريم الأفعال المرتبطة بازدراء الأديان ومقدساتها، ومكافحة كافة أشكال التمييز، ونبذ خطاب الكراهية، عبر مختلف وسائل وطرق التعبير.

لقد قدم هذا القانون حماية للدولة من أي توتر على مستوى الجبهة الداخلية، ودعم التعايش بين الجنسيات والثقافات، وكشف أن التسامح حقيقة مؤكدة في الإمارات، وما كان ليتحقق لولا قابلية الإماراتيين للتسامح، وكيف لا وقد تسامحوا مع أهوال الطبيعة في اليابسة والبحر وهي غير عاقلة في أزمنة ماضية، ونجحوا في ذلك؟ فكيف لا ينجحون اليوم مع البشر وهم أهل عقول؟

التعليقات

الأكثر قراءة

كاريكاتير

اتبعنا على فيسبوك

اتبعنا على تويتر