مرّت منذ يومين ـ 17 فبراير الجاري ــ الذكرى التاسعة والعشرون لتأسيس اتّحاد المغرب العربي، دون أن يكون لها أي ذكر ـ ولو طابعاً احتفاليا ـ لا على الصعيد الرسمي، ولا على المستوى الشعبي، ولا حتى عبر وسائل الإعلام، وقد يُرْجعِ البعض سبب ذلك لغياب مؤسسي الاتحاد إما بالموت أو الإبعاد من السلطة، وهذا المبرر إن سلمنا به سينتهي بنا إلى اعتبار الاتحاد المغربي عملا غير مؤسس اقتضته ظروف معينة، تَحَكَّمت في مواقف قادته أنذاك، فهل هذا الاستنتاج صحيح، ويمكن اعتباره مدخلا للحالة الراهنة؟.
بالعودة إلى الجانب التوثيقي والقانوني، بل والتاريخي أيضا، سنجد أن انشاء اتحاد المغرب العربي لم يكن منبعه رغبة قادة الدول المغاربية فحسب، ولكنه مَثَّل رغبة شعبية لا تزال مستمرة، وهو أيضا رغبة عربية منذ أن بزغت فكرته الأولى في أبريل 1958 في مؤتمر طنجة بالمملكة المغربية، تلك الفكرة التي هي نتاج مرحلة عربية كشفت أدبياتها السياسية ومواقف قادتها على سعي صادق، وواعد، لقيام وحدة عربية، ثنائية وثلاثية، وعربية، وجماعية، كان للثورة المصرية، وللوحدة المصرية ــ السورية أثرهما الواضح على الفكر القومي العربي، وعلى القادة العرب، ومنهم الزعماء المغاربيون.
إذن، النقاش حول وضع دول اتِّحاد المغرب العربي في الوقت الراهن لا يتعلق بالماضي، ولا بالنيات الطيبة والصادقة لقادته في لحظة انشائه، ولا حتى بالفشل الذريع الذي أصاب قادته، وإنما له صلة ببعدين، الأول خاص، أي مغربي بحت، والثاني قومي وعربي، وكل واحد من الأمرين، أو الاثنين معاً، يكشف عن فتن مغاربية أدَّت إلى توتر في شبكة العلاقات الاجتماعية في دول الاتحاد، وستنْتهي به إلى فوضى عارمة على النحو الذي نراه اليوم يجتاحها بأشكال متعددة للعنف، وعلى خلاف فترة الثورات ضد المستعمر الخارجي، حين كان النضال في مراحل معينة جماعياًّ، وفي مراحل أخرى شبه جماعي، نجد اليوم كل دولة مغاربية تسعى لإنقاذ نفسها، وكأنَّ التفكك والفوضى والمعاناة في الجارة الشقيقة لا يعنيها، وهذا عمّق المآسي الداخلية، ووسَّع من دائرة العداوة، في سابقة ـ تعد خطيرة للغاية ـ وهي تًطًابِق ضيق أفق الحاكم مع سعة نظر الشعوب للعلاقة بين سكان دول الاتحاد.
في البعد الخاص المغربي، تبدو لنا وقائع ومشاهد وصور مؤلمة، حالت ـ ولا تزال ـ بين أي تقارب أو تعاون عميق بيد دول اتحاد المغرب العربي، وهي فتن داخلية مشتركة لا ريب، تبدأ من التغيرات الحاصلة داخل كل دولة، حيث شرعية السلطة في الجزائر وعدم شرعية السياسية فيها، وفوضى الديمقراطية في تونس، واحتجاج الجبهة الاجتماعية في المغرب، والاقصاءالمُتعمَّد لقوى سياسية بعينها في موريتاتيا، والغياب الكلي للدولة في ليبيا، وفوق هذا كله تمدد تيار الإسلام السياسي في هذه الدول وتحكمه في مصيرها، ويشي وجوده بمزيد من الكوارث في المستقبل المنظور.
من ناحية أخرى، هناك خلافات عميقة بين الدول المغاربية، منها: ما يتعلق بالهوية حيث الخضوع للأقليات على حساب الأكثريات، والموقف من الجماعات الإرهابية، والتصدِّي لأمواج المهاجرين الأفارقة، والتهريب بكل أنواعه، وحماية الحدود، وسبل التعاون مع المنظمات والتجمعات الدولية والإقليمية، من ذلك علاقتها بالاتحاد الأوروبي، والموقف من الحراك الاجتماعي الداخلي، ومٍسألة التسليح واستنفار الجيوش، وكيفية الممارسة الديمقراطية ودور المعارضة، وغيرها من القضايا الأخرى، التي تحاول الحكومات المغاربية إخفاءها عن الشعوب، مع أن هذه الأخيرة تدرك أن العلاقة فيما بينها هي الباقية وأن الحكومات إلى زوال، وإن كانت في الفترة الأخيرة بدات تميل إلى الخطاب الداعي للفتنة، خاصة حين تبنَّت مؤسسات تلك الدول ووسائل إعلامها موقفا نقديا أو عدائيا من دولة جارة على خلفية خلاقات غير مبررة، ولا تحتاج في الغالب إلى تلك الحرب الشرسة التي تشن عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
أما بخصوص البعد الثاني، وهو المتعلق بالشق العربي، فإن دول الاتحاد المغاربي لا تختلف ـ إن لم تكن أسوأ كما هي الحال في ليبيا ـ من الدول العربية الأخرى، التي تعاني اليوم على مستوى الجبهة الداخلية، حيث العنف السياسي والاجتماعي وانتشار الفساد في بعضها، والحرب على الهوية في بعضها الآخر، كما أن فشل الاتحاد العربي يُكْمِل ـ سلبيا ـ الطريق الذي انتهى إليه معظم الاتحادات العربية، ويُبِيِّن أن الأوضاع العربية متقاربة، حتَّى إن لم تكن واحدة، ما يعني أن الفتن المشتعلة نيرانها في دول الاتحاد المغاربي، هي نفسها المشتعلة في دول عربية أخرى، لكن كل هذا لا يبرر الفشل الذي وصل إليه الاتحاد المغاربي.
والخلاصة أن «الفتن المغاربية» اليوم، ببعديها الخاص المغاربي، والقومي ـ العربي، ستتواصل على خلفية احْيائِها من عدة أطراف، ولن يطفئها الخطاب السياسي الداعي للاتحاد، وهو في حقيقة الأمر متناقض مع المواقف والأفعال، أو القول بعوامل الاتفاق الظاهرة والخفية، وإنما بالإعلان صراحة والاعتراف بالخلافات الموجودة بيننا والتي تتعمق كل يوم، وتلك لا تخصُّ المغاربيِّين وحدهم، وإنما تعني كل العرب.. البداية من ادراك الاختلاف، والاقرار بوجود، والقبول به، ربما تؤهلنا إلى مصالحات عجزنا عن تحقيقها عند حديثنا الزائف، وتعلقنا الوهمي بالمشترك، والمتفق عليه بيننا.