هل يُمْكن أن يحدث تحالف يوما ما بين بعض الأنظمة الحاكمة فى الدول العربية، وبين تيار الإسلام السياسى بمختلف جماعاته؟.. أعرف أن هناك أطرافا عديدة تقف صراحة ضد السؤال، وغير معنية بالإجابة عنه، كما أن هناك قوى فاعلة تعتقد واهية بوراثتها فضاء ذلك التيار بعد تورِّطه بشكل علنى فى الأعمال الإرهابية، وأخرى تقتات من الخلاف ـ الذى وصل إلى حدّ القطيعة والاقتتال ـ بين التيارين الوطنى والإسلامي، وبغض النظر عن المواقف السابقة وتأثيرها على صياغة مشاريع تُسهم فى إخراجنا من أزماتنا السياسية، فإن التجارب أثبتت فى معظم الدول العربية ألا جدوى من التحالف أو حتى التعاون بين الحكومات وتيار الإسلام السياسي، أو حتى إعطائه الفرصة للمشاركة السياسية، ليس فقط لكونه عدواّ للديمقرطية، ولكن لأنّه يعمل على تدمير الدولة الوطنية، مع أنه فى أدبياته يسعى لإقامة الخلافة من جديد، وهذه لن تؤسس إلا بتجميع الدول ووحدتها، وتعدد شعوبها، فكيف له أن يسعى لها، وهو يحوّل دولنا إلى ساحات حرب، بحجة عدم شرعية الحكام، ويتحالف مع الأعداء، وينشر الخراب فى كل مكان؟.
لقد انتهت تجارب التعاون والاعتراف، والدعم من طرف القيادات العربية لتيار الإسلامى السياسى بمذاهبه المختلفة، بالقتل والتآمر والخيانة والتحالف مع قوى خارجية، ومن الأمثلة على ذلك: التجربة المصرية (محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر، واغتيال الرئيس محمد أنور السادات، والتآمر ضد الرئيس محمد حسنى مبارك)، وفى التجربة الجزائرية( إسقاط الرئيس الشاذلى بن جديد، واغتيال الرئيس محمد بوضياف)، وفى التجربة الليبية(قتل الرئيس معمر القذافى بتحالف مع الناتو، ودول عربية وإسلامية)، وفى التجربة اللبنانية (اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري)، وفى التجربة العراقية التحالف مع القوى الغربية بزعامة أمريكا والقضاء على نظام الرئيس صدام حسين، ثم إعدامه، وأخيراً اغتيال الرئيس على عبد الله صالح من حلفائه الحوثيين. مع ذلك فإن هناك بعض الحكومات العربية لا يزال يٌصر على الّشراكة مع تيار الإسلام السياسي، مستندا إلى ثلاثة مبررات، أولها: أن التيار الدينى موجود بحكم الواقع، وبِحُجَّة الحقيقة أيضا، وثانيها: تمكنه الواضح فى الفضاء المجتمعي، والقبول بأطروحاته، وشبه مشاريعه ـ الوهمية والحقيقية ـ الأمر الذى عجزت عنه مؤسسات الدولة، وثالثها: أن التعاون معه، أو تطويعه سياسيا، قد يساعد الأنظمة على مواجهة الجماعات الإرهابية، أو على الأقل يتم تحييده، وتلك المبررات صحيحة من ناحية التنظير، لكنها فى التطبيق العملي، كشفت عن خلل فى التقييم وفى القراءات، وحتى فى التوقعات، دون أن ننفى أنه فى تجارب بعينها، تمّ تدعيم الدولة الوطنية من الأحزاب الدينية، على خلفية مُحاربة وإبعاد أحزاب إسلامية أخرى، وذلك نوع من الصراع لا يختلف فى مضمونه ونتائجه عن الحروب الدائرة بين الميليشيات الدينية، من أجل التمكين لسيطرتها من جهة، وإقصاء مثيلاتها من جهة ثانية، والانتقال بعد ذلك إلى حرب الوجود من جهة ثالثة.
بعد هذا كلّه، نجد أنفسنا فى حيرة من أمرنا، فمن ناحية نعيش فى دول دينية، دستوريا ومؤسساتيا، تحارب عبر اجتهادات سياسية واقتصادية من أجل التطوير والنماء، مع وجود بعض المواقف المخالفة للدين أحيانا، وهى لا تؤثر على السياق العام لإيمان الدولة، حيث الاختلاف فى التطبيق بينه وبين تدين الأفراد والتزامهم، ومن ناحية أخرى يتم التشكيك فى التزامنا الدينى من طرف تنظيمات وجماعات ـ دموية وغير دموية ـ اختارت لها نهجا خاصا تريد فرضه علينا، وتجاوزت ذلك ــ فى بعض الحالات ــ إلى تكفير الحكام والقادة، بل والمجتمعات أيضا، وهذا يدفعنا إلى السؤال الآتي: هل يمكن الخروج من وضعيتنا الراهنة؟.
قبل الإجابة عن السؤال أعلاه، لابد من الإشارة إلى أن الغالبية منا غير راضية عن عمق الخلافات الدائرة الآن التى ظاهرها الدين وباطنها السياسة، لأنها تجنى نتائجها السلبية، هذا أولاً، وثانيا: إن أسلمة المجتمعات العربية من جديد لا يختلف عن تسييس الدين، وثالثا: أن الخلاف الدائر دنيوى وليس أخرويا، وإن أصرت الجماعات الدينية على طرحه من هذا المنظور، ورابعا: أن اتخاذ سفك الدماء منهجا وقضية يخالف رسالة التوحيد، ويحيلنا إلى سخط نتيجة لما فعلته أيدينا ليُذِيقنا بعض الذى نعمل، كما أن اللجوء إلى الحل الأمنى كمخرج وحيد، يزيد من رد الفعل، بدموية أكبر وأبشع. مهما بلغت حالاتنا العربية من السوء، إلا أن إمكانية الخروج منها لا تزال قائمة، وهى لا تتعلق بالنيات، وإنما بالعيش فى هذه الدنيا بأمان، وهذا لن يتحقق إلا إذا حسمنا المسألة الجوهرية، ذات الصلة المباشرة بالدين، المتمثلة فى الاتفاق حول المشترك دنيويا، وترك المختلف حوله أخرويا إلى الله سبحانه تعالى، ليحكم فيه، وهو خير الحاكمين، أليس ذلك تسليما بالقدر؟.. فهل نلتقى حول وَعْدٍ يُحَقِّقُ ذلك؟.