إيران تجْني تأييدها للفوضى في الدول العربية والتدخل في شؤونها سياسيا وعسكريا، إذ لا يمكن أن تشعل المنطقة دون أن تصيبها النار، خاصة حين تطرح مسألة التغيير من زاوية استحضار الموروث التاريخي للصراع العرقي.
بغض النظر عن نتائج الأحداث الأخيرة في إيران لجهة التّغيير من عدمه، وبعيدا عن أي تهويل إعلامي من الخارج أو تبرير من الداخل، ورفضا لتحويل الأنظار عن التصعيد في الجبهة الداخلية الإيرانية بحجج التدخل الخارجي، فإن إيران اليوم تجْني تأييدها للفوضى في الدول العربية، والتدخل في شؤونها سياسيا وعسكريا، إذ لا يمكن إشعال المنطقة دون أن تصيبها النار خاصة حين تطرح مسألة التغيير من زاوية استحضار الموروث التاريخي للصراع العرقي.
عملت إيران على مدى أربعين سنة بكل الوسائل من أجل تصدير الثورة إلى محيطها الجغرافي أولا، ثم حاولت تعميمها بمختلف الأساليب والتجنيد في معظم الدول العربية ثانيا، ورفعت شعار الثورة ضمن خطاب سياسي في علاقاتها الدولية مع الحفاظ على الجانب النفعي في تلك العلاقة ثالثا.
وقد نتج عن ذلك التداخل عجز واضح لدى قادتها في التميّز بين مرحلة الثورة، وبين مرحلة الاستقلال أي مرحلة الدولة، وتمكين الملالي من طرح تصور سياسي ثيوقراطي، عجز لحد الآن على تجميع المواطنين حول المشروع الوطني في بعده العقائدي من جهة، وتعميق الهوية والانتماء من جهة ثانية.
لقد كشفت الأحداث الأخيرة أن عناصر النخبة وحشد كبير من المثقفين والأجيال الجديدة، سواء التي ولدت قبل الثورة أو التي تزامنت معها أو حتى التي ولدت بعدها بعقد أو عقدين، تُميز بوضوح بين النباهة والاستحمار، كما جاء في كتاب المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي الذي حمل نفس العنوان، لذلك هي تسعى اليوم إلى التغيير استنادا إلى أدبيات الثورة، وهذا في ظاهره مطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية ولكن في باطنه محاكمة تاريخية للقيادات الدينية التي اختزلت الثورة فيها، واستولت عن الثَّرْوة، ووظَّفَتْها، ولا تزال، لخدمة شعارات واهية، جرت الوبال على المنطقة، ووتّرت علاقاتها مع كثير من دول العالم، خاصة المشتركة معها في الجغرافيا والتاريخ.
الحالة الإيرانية الراهنة، مع أنها جزء من تغيير سلبي دموي شمل المنطقة كلها، هي بالأساس نتيجة حتمية لغياب الوعي بخصوصية الثورة وأهدافها، وأنها تختلف تماما عن الدولة لجهة تحديد الأولويات، وتعميق قوة الجبهة الداخلية، والحفاظ على علاقة مع الآخر تقوم على التعايش وليس الإقصاء، خاصة وأن الثورة الإيرانية قوبلت بتعاطف وتأييد كبيرين عند انتصارها، وقد كانت في وقتها حالة عشق من المعادين للتغوّل الغربي في المنطقة في محاولة منهم للتخلص من الهيمنة الغربية.
المؤيدون للثورة الإيرانية، اعتقدوا أنها ستنطلق من استحضار ميراث الزعيم محمد مصدق، الذي كشف عن وعي مبكر في ستينات القرن الماضي، غير أن ذلك لم يحدث لأن رؤية الملالي للدولة تختلف تماما عن مواقف مصدق، والطريقة التي أبعد بها كشفت عن رفض مشروعه الوطني من الغرب، إذا قُورنت بهجوم الغرب الآن على إيران، تكشف التأييد الخفي والظاهر للقيادة الحالية، لهذا تحول إنشاء الدولة في إيران مع السنوات إلى رغبة عارمة في الاستحواذ والتجبّر، فأدرك جيرانها الأقربون خطرها، ووعى الأبعدون انخراطها في فوضى عارمة، هي اليوم، شريك فاعل فيها مع الأمم المتكالبة علينا.
لقد فشلت كل محاولات إيران في التمكّن من جعل الدول العربية تابعة لها بما في ذلك العراق، التي تبدو اليوم كأنها جزء منها، مع أن كثيرا من الشواهد والوقائع والأدلة تؤكد وقوفها إلى جانب كل دعاة الفوضى داخل أقطارنا، والمدخل دائما هو القضاء على الهيمنة الغربية من أجل حقوق الضعفاء، متخذة من المصطلحات القرآنية لغة خطاب أيديولوجي كما هو بالنسبة لمصطلح “الاستكبار”، وهذا متناقض مع ما يظهر من علاقاتها الدولية مع قوى فاعلة لا دينية كما هو الأمر في سوريا، وتعاونها العلني مع من تدعي أنها عدوها الأول، ورأس الاستكبار العالمي بالنسبة لها، الولايات المتحدة الأميركية، كما فعلت في السنوات الماضية وتفعل الآن في كل من أفغانستان والعراق.
من ناحية أخرى، هناك تحالف مُرِيب بين تيار الإسلام السياسي ممثل في الإخوان المسلمين، وجمهورية إيران الإسلامية، ليس لأن كثيرا من الوقائع تؤكد هذا التحالف ومنها أن الفتنة على أساس مذهبي هي السائدة اليوم، وأتباع الدين الواحد يُقْتَلون من مُتطرفي الجهتين، ولكن لأمر آخر أهم هو أن هذا التحالف يتم على أساس تدمير ثلاثة مرتكزات أساسية أولها: القضاء على الأنظمة القائمة باعتبارها أنظمة ظالمة وهي شبيهه بالشاه، وبالتي يجب إسقاطها وإحلال قادة الجماعات الدينية مكانها. والثاني محاربة الوحدة العربية بالدعوة إلى خلافة إسلامية يكون قادتها من غير العرب ما يعني إنهاء أو العمل على إقصاء العروبة. وثالثها إفراغ الدولة الوطنية من محتواها، بأمرين: التشكيك في الانتماء والتقليل من أهمية عمل يقوم به الزعماء العرب، والثاني استنهاض الأقليات عرقيا وطائفيا ودينيا بحيث يُقْصى العرب في دولهم.
المحصلة أن إيران فشلت في تصدير ثورتها إلى الخارج خلال العقود الماضية، باستثناء الشحن العاطفي، لذلك تصدّر اليوم ثورتها إلى الداخل دون اختيار من نظامها، وهي أمام وضعين أحلاهما مر. إما أن تقبل بالتغيير وتعيش ثورة حقيقية تقودها الأجيال الجديدة، وهذا لن يقبل به نظام الحكم الديني والسياسي، وإما أن ترفض التغيير وتقمع الثورة كما هو حاصل الآن، وهذا قد يعطل مقاومة الشباب ولكن لن يوقفها نهائيا. النظام الإيراني لا يملك فرصة الاختيار، سيفشل لا محالة في الحاضر أو في المستقبل القريب جدا، تلك ليست أماني ولكنها حقائق التاريخ.