لم يكن يائير لابيد الزاحف إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وتصريف أعمالها وتسيير ملفاتها، حتى تمام الانتخابات التشريعية المبكرة الخامسة وظهور نتائجها، وتكليف الأقوى فيها بتشكيل الحكومة الجديدة، يحلم أن يرتفع رصيده في الشارع الإسرائيلي، وأن ينال نسبةً أعلى من أصوات المؤيدين له والراضين عن سياسته، وهو المتهم في الأوساط الداخلية الإسرائيلية أنه أقرب إلى اليسار فكراً وسياسة، وأنه لا يستطيع اتخاذ قرارات تتعلق بالحرب وشن عمليات عسكرية، أو تنفيذ مهامٍ أمنية كبيرة، فهو القادم من خلف المكاتب الإعلامية والبرامج التلفزيونية، دون أدنى خبرة عسكرية أو أمنية، إلا أنه ضليعٌ بالملفات الاقتصادية، فهو إلى جانب أنه كان وزيراً للاقتصاد في إحدى حكومات نتنياهو، فهو رجل أعمالٍ كبير، وأحد أكثر الإسرائيليين ثراءً.
فجأة وجد رئيس حكومة تصريف الأعمال الإسرائيلية يائير لابيد نفسه في خضم المعركة العسكرية، وداخل ميدان القتال، يزور مستوطنات الغلاف، ويقف على الحدود، ويتجول بين الدبابات والجنود، ويطلق التصريحات من بين السيارات العسكرية والتجهيزات القتالية، ويستخدم مفاهيم جديدة لم يألفها من قبل، فهو يريد حسم المعركة دون أن يتكبد مستوطنوه أي خسائر، ويشجع قائد الجيش على تحييد قادة حركة الجهاد الإسلامي، وتصفية كبار مسؤوليها، بما يعيد الأمن إلى العمق والغلاف، ويحقق الردع واستعادة الثقة بالجيش وقدراته القتالية، ويرفض تقديم أي اعتذار للفلسطينيين أو المجتمع الدولي بسبب استخدام القوة المفرطة في قصف أهدافٍ مدينةٍ فلسطينية، ويعتبر أن ما قام به جيشه يندرج تحت مفهوم حفظ الأمن وسلامة المستوطنين، وتوجيه ضرباتٍ استباقية ضد أي مخاطر محتملة.
يظن لابيد أنه حقق في قطاع غزة ما لم يحققه أسلافه، وأنه تمكن من تدمير منصات إطلاق الصواريخ، ووجه ضربةً مؤلمةً إلى حركة الجهاد الإسلامي، وصَفَّى كبار قادتها، واستطاع أن يخلق شرخاً بين قوى المقاومة الفلسطينية، وعطل غرفة العمليات المشتركة، ومكن جيشه من استعادة بعض هيبته، وترميم بنيته، واستعراض قدراته العسكرية، التي مزج فيها بين القوة والأمن، ومنح سلاح الطيران الفرصة الكاملة لأن يتفرد في المعركة، فيما يبدو أنها محاولة لاستعادة هيبة الذراع العسكرية الطويلة لسلاح الطيران الإسرائيلي القديم.
كما ظن لابيد أنه نجح في توجيه رسائل صريحة ومباشرة إلى قوى المقاومة الفلسطينية وغيرها، بأنه قادرٌ على أن ينال منها ويحيدها، وأن جولة القتال القصيرة في غزة قد تتكرر مراتٍ أخرى في أكثر من مكان، وتخيل أن قوى المقاومة الأخرى قد تلقت الرسالة وفهمتها، وأدركت أن سياسة الجيش قد تغيرت وصلاحياته قد تبدلت، ولعل بعض مستشاريه الأمنيين والعسكريين، فضلاً عن قائد جيشه، قد نفخوا فيه وأشادوا به، وهَوَّلوا له ما حقق وعظموا ما أنجز، وكَبَّروا رأسه أكثر مما يعرف هو عن نفسه.
زاد في زهو لابيد وخيالائه، أن نتنياهو استجاب له ولبى دعوته، واستمع إليه وقدم له نصائحه، وقَبِلَ أن يتلقى منه تلخيصاً أمنياً، ويطلع على التقارير الخاصة بالعمليات العسكرية الجارية في قطاع غزة، بما يعني اعترافه به رئيساً للحكومة الإسرائيلية، وهو الذي كان يرفض الاعتراف بسلفه نفتالي بينت، ويصر على تحقيره والتقليل من قدره وشأنه، والاستخفاف بقدراته ومميزاته، رغم أن الظروف الأمنية والعسكرية التي كانت سائدة في مايو/آيار من العام 2021، في ظل حرب "سيف القدس"، كانت أقسى وأصعب، وأكثر خطورة وسخونة مما هي عليه الآن، ورغم ذلك فقد رفض تقديم الدعم لبينت بينما قدمه للابيد، الذي اعتبره اعترافاً به وتنازلاً من نتنياهو له.
ما زالت استطلاعات الرأي الإسرائيلية تورط لابيد أكثر فأكثر، وتمنحه المزيد من التقدم، وتوهمه أنه أصبح الأقوى والأقدر، وأنه المنقذ والمخلص، وأن على شعب إسرائيل أن يضع فيه الثقة ويمنحه المزيد من الأصوات في الانتخابات القادمة، بما يمكنه من تشكيل حكومةٍ قوية ومستقرة، فلا يكون الشعب مضطراً لخوض انتخاباتٍ سادسة وربما سابعة.
يبدو أن يائير لابيد مخمورٌ بما يسمع، ومنتشيٌ بما يرى، وما زالت السكرة تلعب في رأسه، ونسي أن الأرض التي يقف عليها تميد به وبمستوطنيه، وأنها تشتعل ناراً في كل مكانٍ حوله، وأن الفلسطينيين، أصحاب الأرض وحماة الوطن، لن يتركوه في سكرته طويلاً، ولن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام استعلائه الموهوم، وتفوقه المخادع، فكما أسقطت المقاومة شيمعون بيريز وأيهود أولمرت وأيهود باراك وأفيغودور ليبرمان، وقادة الجيش السابقين أمثال دان حالوتس والدعيِّ الفاشل بيني غانتس، فإن المقاومة التي تضرب في القدس والضفة الغربية، وتصمد وتصد في قطاع غزة، وتخيف في جنوب لبنان وترعب، قادرة بإذن الله أن تنسي لابيد وساوسه، وأن تعيده بالقوة إلى حجمه الطبيعي وجحره الذي كان فيه.