شعر نتنياهو بالكثير من النشوة والفرح، واستبشر واطمأن، وظن أن الدنيا قد ابتسمت له من جديد، وأن الفرصة قد عادت له وأن الحظ قد حالفه، بعد أن أشارت أغلب استطلاعات الرأي بعد نجاح الجيش الإسرائيلي باغتيال القيادي اللبناني في حزب الله فؤاد شكر، واغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس الأستاذ إسماعيل هنية في العاصمة الإيرانية طهران.
وقبل ذلك زيارته التاريخية التي ظن أنها ناجحة إلى واشنطن، والحفاوة التي حظي بها خلال خطابه أمام مجلسي الشيوخ والنواب الأمريكيين، أنه الشخصية الأفضل لتولي رئاسة الحكومة الإسرائيلية، وأن حزبه سيكون الأكثر تمثيلاً في الكنيست في حال جرت الانتخابات الآن، وأنه تمكن وفق استطلاعات الرأي من تجاوز تحدي بني غانتس الذي كان الأوفر حظاً لتولي رئاسة الحكومة، وزعيم المعارضة يائير لابيد الذي ينافسه على المنصب، ويشتغل على تجريده منه وإقصائه عنه.
ظن نتنياهو أن شهر العسل سيطول، وأن أحداً لن ينغص عليه حياته أو يوقظه من منامه، وأن شهره لن ينتهي حتى ينتصر في الحرب، ويحقق الأهداف التي أعلن عنها، وأن سينجو من المساءلة والتحقيق والمحاكمة، وربما السجن والحرمان من ممارسة العمل السياسي، وهو الأمر الذي يرعبه ويخيفه، كونه يعلم أنه إن حدث وسقط فإنه سيموت في سجنه، وستنتهي حياته فيه متهماً مداناً، ولن يسعفه ما بقي من العمر لتعويض ما فاته، ولن يتمكن من إصلاح صورته واستعادة شخصيته.
لكن الحقيقة قد صدمته والواقع قد خذله، وعادت استطلاعات الرأي تخيفه والأرقام تقلقه، وأصابته الخيبة جراء الانقلاب في المؤشرات، الذي ظن أنه سيكون بعيداً، أو أنه قد نجا منه ولن يعود إليه، وبدأت نتائج استطلاعات الرأي تعود إلى طبيعتها، وتظهر حجمه الحقيقي في الشارع الإسرائيلي، وتتجاوز الإنجازات التي ظن أنه قد حققها، وأنها قد رفعته وحصنته.
إلا أن حادثة مقتل الأسرى الإسرائيليين الستة، في أحد أنفاق مدينة رفح، يوم الجمعة 30/8/2024، اعتبرت نقطة تحول وعلامة فارقة في المزاج الشعبي الإسرائيلي، الذي انفجر ضد نتنياهو يوم الجمعة 1/9/2024 في مظاهرات حاشدة ضد سياسته العامة وطريقة إدارته لملفي الحرب والأسرى، واحتجاجاتٍ صاخبة تطالبه بالاستقالة والتنحي، وحل الكنيست والدعوة إلى إجراء انتخاباتٍ برلمانية مبكرة.
واعتبرت هذه المظاهرات التي شارك فيها قرابة 700 ألف مستوطنٍ، والإضراب العام الذي رافقها، وشمل أغلب مرافق الكيان الحيوية، بما فيها المطار والموانئ ومحطات السكك الحديدية، بدعوةٍ من نقابة العمال "الهيستدروت"، أكبر استفتاء ضد نتنياهو، على الرغم من أن محكمة العمل أصدرت قراراً بوقفه والعدول عنه، ولكن بعد أن مضت ساعات على انطلاقه.
رغم أن نتنياهو يتحكم في الكثير من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والصحف الورقية ومراكز الدراسات واستطلاعات الرأي الإسرائيلية المختلفة، إلا أن استطلاعاً أجرته صحيفة معاريف الإسرائيلية يوم 30/8/2024، أي بعد مقتل الأسرى الستة في أحد أنفاق مدينة رفح، وبعد شهر من اغتيال شكر وهنية في بيروت وطهران، وأكثر من شهرٍ على خطابه أمام المشرعيين الأمريكيين، أظهر تراجعه وخسارته للصدارة التي تمتع بها أياماً، وتقدم بني غانتس مجدداً عليه.
وفي استطلاعٍ للرأي آخر بعده بثلاثة أيامٍ، أجرته قناة "كان" الإسرائيلية، أظهرت النتائج أن 63% من المستطلعة آراؤهم لا يؤيدون بقاء نتنياهو في رئاسة الحكومة، ولا يثقون في طريقة إدارته للحرب، ولا يعتقدون أنه يقوم بما يجب لتحرير الأسرى "المخطوفين" وإعادتهم إلى بيوتهم، وأن أكثر من 54% منهم يؤيدون انسحاب جيشهم من محور فيلادلفيا، ويعتبرون بقاءه فيه عقبة أمام استعادة "المخطوفين".
شكل هذان الاستطلاعان وهما الأحدث بعد سلسلة الانجازات الخلبية صفعة قوية لنتنياهو، وإنذاراً صريحاً له بأن شهره العسل قد انتهى، وأن الواقع على الأرض لا يحابيه ولا يجامله، حيث أظهرت الاستطلاعات بالأرقام والبيانات، أن المجتمع الإسرائيلي ليس معه ولا يؤيده، ولا يثق فيه ولا يؤمن بصوابية سياسته ولا حسن إدارته للحرب وكل الملفات الأخرى، ويرون أن تنحيه وإقصائه، أو استقالته واستبداله، سيغير الواقع، وسيحرر الأسرى، وسعيد المستوطنين، وسيخلق واقعاً أمنياً أفضل.
لكن أي استطلاعٍ للرأي بعد اليوم الأحد الخامس عشر من شهر أيلول، فإن نتائجه ستكون مختلفة كلياً، ولن تكون في صالح نتنياهو أبداً، المتبجح بتوسعة الحرب نحو الشمال، وهو العاجز عن حسمها جنوباً في غزة، فهذا اليوم سيبقى محفوراً في الذاكرة الإسرائيلية، بأنه يوم الصاروخ اليمني الفرط صوتي، الذي قطع أكثر من ألفي كيلو متراً من اليمن، ووصل بعد أقل من اثنتي عشر دقيقة إلى قلب الكيان الصهيوني، وأصاب هدفاً على بعد ستة كيلو مترات من مطار اللد، وأجبر مئات آلاف الإسرائيليين على النزول إلى الملاجئ والنجاة بأنفسهم من الصاروخ اليمني، ومن صواريخ القبة الفلاذية المضادة للصواريخ، والتي فشلت في التصدي للصاروخ اليمني، وعجزت عن إسقاطه، وإن ادعت بأنها أصابته في اللحظة الأخيرة إصابة جزئيةً.
لن يكون نتنياهو في حاجةٍ إلى استطلاعات رأيٍ أخرى، ولن يسعفه الوقت لإجرائها، ولن يصدقه شعبه بنتائجها، كما لن تساعده إنجازاته الوهمية على القيام بها، وسترغمه إخفاقاته المستمرة على العدول عنها، والاستسلام للواقع والاعتراف بالحقيقة، والكف عن التلاعب بالأرقام والبيانات، وانتظار الفرص والمعجزات، فالمقاومة لن تتيح له الفرصة لأن يستمتع بشهر عسلٍ مهما حاول، جاداً أو مخادعاً، صادقاً أو كاذباً.