هذه الصياغات الثنائية كثيراً ما ضللت التحليل إلى خارج قضية الدولة وبقائها وتقدمها لكي تتحمس مراكز البحوث في الدول الغربية، مقسمة الحالة إلى أخيار وأشرار، فيكون الأولون مدنيين ديمقراطيين ليبراليين متسامحين، بينما الآخرون عسكريون يريدون السلطة، ومعها تأتي المعتقلات، والتعذيب العاكس لحالة نفسية معقدة. الجماعات الأصولية والدينية الإرهابية أو السلفية، عالمها منقسم بين المؤمنين والكافرين، والأولون منهم لديهم قدر كبير من «البركة» فتفيض أموال وخيرات الأمة على أيديهم، أما الآخرون فهم الذين ينتظرون عذاب النار وعلى أيديهم يكون هنا خراب مبين. الأمر هكذا يدور عند كل ثنائية، وفي كثير من البلاد العربية التي تعرضت للاختيار الصعب، وهي الغافلة تماماً عن حقيقة أنه لا يوجد تقدم من دون دولة وطنية، ولا يوجد تقدم ما لم تستقر على حكم الدولة نخبة سياسية قادرة وفاعلة ومتحدة.
الاتفاق على المحاصصة كما هو الحال في لبنان والعراق لا يعني تجاوز أزمة الدولة وإنما تأجيل الأزمة لأوقات تالية، وبين كل وقت وآخر تكون هناك حرب أهلية من هذا النوع أو ذاك. العيش مثل الحال على الطريقة السودانية تعني حلقات متتابعة من تبادل السلطة بين العسكريين والمدنيين، وفي كل الأحوال لا يتم حل معضلة واحدة من معضلات الدولة، ولا يجري دعم وحدتها، ولا تعرف تقدماً اقتصادياً أو اجتماعياً. منذ الاستقلال حيث كانت النخبة مدنية فإنها لم تستمر طويلاً حتى جاء انقلاب عسكري، وبعد سنوات قليلة استنفرت الجماهير نفسها في ثورة لكي تتخلص من الديكتاتورية، وجرت الانتخابات وجاءت الأحزاب، ولكن لا شيء تقدم خطوة واحدة، خرجت الجماهير غاضبة، جاء انقلاب آخر وبعد عقد منه خرجت الجماهير غاضبة مرة أخرى؛ وهكذا استمرت الحلقات، واحدة بعد أخرى، تحكمها حلقات من غضب الجماهير، واللاشيء بعده.
في كل الأحوال لم يكن هناك مشروع وطني يقيم دولة ينتمي لها كل الساسة الذين يشكلون نخبة، مهمتها المحافظة على الدولة ومنع تفسخها، وبالتأكيد منع الدول الأخرى من العدوان عليها. هؤلاء يعرفون بالنخبة، وهي في معظم الأحوال مدنية، ليس لأن الحرب ليست مهنتها، وإنما لأنها تمثل مجموع المؤمنين بالمشروع الوطني. وإذا لم يكن هناك ذلك المشروع ما قامت الدولة، وإذا قامت لأسباب خارجية، وأحياناً استعمارية، فإن النخبة تنقسم إلى يمين ويسار، وإلى قادمين من جهة وذاهبين إلى جهة أخرى. ثورات ما سمي «الربيع العربي» جاءت بنخب تهدف إلى أن «الشعب يريد إسقاط النظام»، وهتفت بأعلى صوتها «ارحل» لعل الرئيس يرحل، ولكن أياً من الهاتفين لم يكن لديه مشروع من أي نوع، لا كانت هناك رسالة للدولة، ولا معنى لقيامها، ولا اقتراح بمدينة أو شارع جديد أو وسيلة للترقي أو للابتكار، أو معدل للنمو يمكن تحقيقه لرفعة في الذهن أو مكانة. ولأن ذلك كله لم يكن موجوداً فإن البديل كان تسليم البلاد لسلطة دينية لا تبقى منها «السلطة» التي تعني القيادة والمسؤولية والقانون، وإنما تبقي مسحة تدين فيه من الشعوذة مس، ومن الانتهازية الكثير. حينما وصل «الإخوان» في مصر إلى السلطة، ووصل حزب «النهضة» التونسي إلى أكثرية البرلمان، لم يخرج منهم إلا التخبط والفوضى والاستعداد للحرب ضد أعداء وهميين أو حقيقيين، المهم أن يكون هناك كل شيء ما عدا الاقتصاد والتقدم والتكنولوجيا والحياة في عمومها، بعد أن فسح المجال للموت أو اللاشيء أو اللاجدوى.
السودان الآن يعيش حالة الفشل النخبوي هذه، بعد أن جاء للسودان ربيعها الموعود، وجرت القسمة المعروفة، فكانت للعسكر السيادة، وللمدنيين إدارة الحكم. حصل كلاهما على فرصة تكررت كثيراً من قبل، وفسحة من الوقت للبحث عن طريق، أو مشروع وطني يلتف السودانيون حوله؛ وكانت الفسحة عامين هذه المرة حصلت فيها النخبة على الخروج من قائمة الإرهاب، وجدولة الديون الثقيلة، وجاءت قروض ومساعدات. ومع ذلك لم يتوقف السخط لحظة، كان المقابل المطلوب إصلاحاً اقتصادياً عميقاً، له نتائجه وتبعاته، التي كانت في كل دول العالم التي خاضت التجربة كثيراً من الآلام. لم تكن المصارحة كافية، ولا كان القدر المتاح منها مقبولاً، كانت البشرى والوعد أنه مع إطاحة عمر البشير وزين العابدين بن علي والقذافي وصدام حسين فإن موجات اللبن والعسل سوف تأتي غامرة ورائعة. في الحياة الدنيا لا يوجد مثل ذلك، ولا توجد دولة في العالم حققت أهدافها فور زوال الطاغية، فالحقيقة هي أنه مع الزوال تكون بداية العمل الشاق من أجل بناء الدولة. وكثيراً ما جرى التساؤل حول كيف نجح الألمان واليابانيون بعد التدمير والتقسيم والمعاناة من القنابل النووية، في جمع شتات دولتهم بعد إطاحة النازية الهتلرية في الأولى، وإطاحة الحكم العسكري الإمبراطوري في الثانية، سوى أنه جرى تشمير السواعد والعمل الشاق. لقد غزا الاستعمار دولاً من قبل، وحرر الأميركيون وغيرهم دولاً أخرى، ولكن لم يقدر لدول أن تولد من رحم التحرير أو الغزو إلا تلك التي كانت لدى نخبتها الإرادة والتحمل، والذكاء والحكمة لوضع إطار الدولة ثم بعد ذلك دعمه وانتهاز الفرص في سبيله.
في بلادنا العربية تخرج الشعوب إلى الساحات لأن ثمن الدولة ليس واضحاً لديها، فهي تريد التغيير الذي لا يبعد كثيراً عن السحر الذى عنده تتغير الأشياء من دون أن يتغير أي شيء. إذا رفع الدعم فهو توصية استعمارية من صندوق «النكد» الدولي، وإذا جرى تعويم العملة، أي إذا صارت لها قيمة حقيقية، فهي لا تراعي الخصوصية الوطنية. هناك أسباب لكل شيء، واتهامات فوق رأس كل أمر، والنتيجة أن من هم في الحكم يصيرون مقيدين بضرورة توزيع ثروات لم تأتِ، وفي عصر «فيسبوك» مراضاة جماهير افتراضية تتحدث عن الجموع والشعب والجماعة، وفي كل مرة تنزع الشرعية عن الحكم وأحياناً الدولة. في حالات يصير المجال كله مضغوطاً بتقسيمات دينية أو مذهبية أو عرقية أو جهوية، ولدى كل منها استعداد لتقديم تهديد ثم الفيتو على وجود الدولة.
في السودان جرى التقسيم بين الشمال والجنوب، ولكن الأمر كله كان تدريباً على ما سوف يأتي من تقسيمات أخرى، وعندما قامت الثورة لم تقدم مشروعاً للوحدة أكثر من التمنيات الطيبة بالحرية والتغيير والعدالة والمساواة. لم يكن معروفاً الحرية لمن ولأي مدى، وماذا سوف يكون موضوع الدولة ونصيبها من التقدم الذي عرفه العالم؛ ولا التغيير إلى أين، وهل هو إلى الغنى أو إلى توزيع الفقر؛ وهل هو إلى عدالة العمل والمهارة والعلم والقدرة والفعالية، أم هو إلى كثير من الهتاف واللامساواة في الموهبة!